العربية، هي اللغة التي بها أكْتُب، وهي اللغة التي بها أُدَرِّسُ، وليست هي مصدر معرفتي الوحيد. ثمة ما أقرأه في لغاته الأصلية، وثمَّة ما أذهبُ إليه عبر الترجمة، حِرْصاً مِنِّي على معرفة الآخرين، وعلى الاقتراب منهم، والإفادة من معارفهم، بنوع من الحوار والمراجعة، والنقد، وليس بالأخْذ، والتَّبَعِيَّة، أو الطَّاعة العمياء. فمعرفةُ الآخر، هي معرفةٌ بالذات.
أدْرَكْتُ، مثل غيري، مِمَّن اعْتَنَوْا بِكُتُب التراث، وماضي الثقافات الإنسانية، أنَّ معرفة حاضر ثَقافةٍ، أو ُلغَةٍ ما، رهِينٌ بمعرفة ماضي هذه الثقافة، وهذه اللغة. لا لُغَةَ بدون تاريخ، وأعني تاريخ اللغة المعرفي، وتاريخها الجمالي. كما أنَّ لا لغةَ تبقى هي نفسها، لا تتغيَّر، ولا تتبدَّل، فكل اللُّغَاتِ تعرف انتقالاتٍ، وتنمو، وتكبُر، وتَنْتَعِش، أو تَسْتَضِيفُ، في تعبيراتها، وفي تراكيبها، مفردات، وتعابير، وتراكيب، من لُغاتٍ أخرى، ولا توجد لغة مُنْغَلِقَة على نفسها، مُكْتَفِيَة بذاتها، لأنَّ لغةً بهذا المعنى، هي لغة مَيِّتَة، لا حياة فيها.
حين نزل القرآن في شبه جزيرة العرب، لم ينزل بِلُغَةٍ عربية صافيةٍ، خَالِيَةٍ من التأثير الخارجي لِلُغاتِ الجِوار، بل إنه أدْخَلَ في خطابه، وفي تعبيراته، ما كان سائداً من «دَخِيلٍ»، مما كانت العرب تستعمله، في التداول العام، وفي لغة التَّخاطُب، بما في ذلك، ما كان من تنوُّع لَهَجِي، عند القبائل، سواء، في نُطْقِها للحُروف، والكلمات، أو في ما كانت تحتمله بعض العبارات، من معانٍ ودلالاتٍ. لم يأتِ القرآن بلغةٍ لا يعرفُها الناس، أو بلغة نزلَتْ عليهم من السماء، لو حَدَثَ هذا، لَبَقِيَ القرآن دون قارِيءٍ. فسياقات التواصُل، وشُروطُه، كما يعرفها المُتَعَلِّمُون اليوم، هي نفسها التي استجاب لها القرآن، لأنه توخَّى التواصل، لا القطيعةَ والانفصال، بدليل قوله في مطلع سورة يوسف «آلر تِلْكَ ءايَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ، إنَّا أنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ»، أي بلغة الإنسان العربي، وهي اللغة المُنتشرة، والسَّائدة، التي كان الناس يتداولُونها، في معاملاتهم التجارية، أو في أسواقهم، بما فيها سوق عكاظ، الذي كان فضاءً للمنافسة والتَّباري الشَّعْرِيَيْنِ، بين شعراء القبائل المختلفة.