«أريد أن أؤكّد، إن كان هذا يحتاج إلى تأكيد، أن الكتاب يقع داخل الإسلام ومن أجله لا خارجه ولا ضدّه. هدفه تجديد الفهم للإسلام بوسائله الخاصة، وسائل الحضارة العربية طبعا، معزّزة ومؤيّدة بمكاسب ومنجزات الفكر الحديث والمعاصر. باختصار، طموحي كان ولا يزال هو عقلنة فهمنا للإسلام دينا ودنيا. الكتاب الأول والثاني يحاولان أن يعقلنا فهمنا للإسلام كتراث فكري ديني مجرد، كعقل مجرد. وهذا الكتاب يحاول أن يعقلن فهمنا للإسلام كمسيرة حضارية، كدولة وسياسة. وربما أطمح أيضا أن نتمكن يوما من تجاوز المعادلة الصعبة الخاصة بالأصالة / المعاصرة، إذا استطعنا أن نعقلن فهمنا للدين والدنيا معا.»[i]

«والدّوغمائية تقوم في جوهرها على تقديم مفتاح وحيدٍ يفتح جميع الأبواب. والمفتاح الّذي من هذا النّوع هو واحد من اثنين: إما مفتاح بوليس وإما مفتاح لصوص»[ii]

فاتحة:

   تشكِّل المناقشة التّالية الجزء الثّاني الّذي نخصّصه لمقال العمري »الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية في أعمال الجابري « المنشور ضمن المؤلَّف الجماعي  المعنون بـ»محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة«. وقد أدرنا المقال الأوّل على محورين: الأوّل هو اعتراض العمري على جمع البلاغة والنّحو والفقة والأصول وعلم الكلام في إطار "النّظام البياني"، والثّاني هو ادّعاء العمري تحوّل الجابري من الفلسفة إلى البلاغة. وندير المقال الحالي على ثلاثة محاور، الأوّل هو استدراك العمري على الجابري بتشعيب "النّظام البرهاني" إلى "برهاني شبيه" و"برهاني صميم"!، والثّاني هو قوله إنّه "كان الأجدر بالجابري تناولَ "العقل السياسي" و "العقل الأخلاقي" ضمن مبحث البيان"، والثّالث هو "حسمه" في موقع رباعية "التفسير" بالنسبة إلى رباعيّته "النقد"، والزّعم أنّ الثّانية خرجت من الفلسفة إلى البلاغة التّطبيقيّة.

1.   الاستدراك على الجابري بتشعيب "النّظام البرهاني" إلى "برهاني شبيه" و"برهاني صميم":

   يقول العمري: «أعتقد أن هذا التحول نحو المجال البلاغي بدأ بمجرد الخروج من الجزأين الأول والثاني من نقد العقل العربي (التكوين والبنية): فبقطع النظر عن صلابة الرؤية وتماسك المنظومة في العقول الثلاثة (العرفاني والبياني والبرهاني) التي يدور حولها الكتابان، فلا نقاش في أن التصنيف هنا مبني على مستوى المعقولية التي تتصاعد صلابتها من العرفان إلى البيان، ومن ثم إلى البرهان. ونظرا إلى أن البرهان لم يستعمل بمعناه المنطقي الدقيق –بحسب تصريح الباحث- بقيت هناك درجة رابعة )عليا) في سلم المعقولية، هي درجة العقل البرهاني بحق. وربما تكون الرتبة التي سيحتلها «الفكر العلمي» الذي فكر الجابري في تناوله بعد الانتهاء من رباعية نقد العقل، كما جاء في مقدمة مدخل إلى القرآن الكريم. وبذلك نكون بصدد سلّم للصلابة العقلية من أربع درجات: عرفاني وبياني وبرهاني شبيه وبرهاني صميم.»[iii]

تخلى العديد من العرب ـ لأسباب مختلفة ـ عن إيمانهم بالأمة العربية، وأصبحوا يشككون علناً في وجود قومية عربية جماعية. وأخذ البعض يُفضّل اعتبار أنفسهم مسلمين في المقام الأول، وأنهم ينتمون إلى الأمة الإسلامية. وقد تحوّل مصطلح "العرب" في قاموسهم إلى تسمية مهينة ـ في بعض الأحيان ـ توحي بالإسراف، والسطحية، وعدم الكفاءة، والتبعية. فيما يُفضّل عرب آخرون أن يُعرفوا بوضوح بأنهم مصريون، أو سوريون، أو أردنيون، أو عراقيون. مواطنون في أكثر من إحدى وعشرين دولة مستقلة ـ باستثناء فلسطين المحتلة ـ لكل منها علمها ومصالحها الخاصة. حتى أن بعضهم لجأ إلى وصف أنفسهم بالشرق أوسطيين، تحسباً لسلام عربي إسرائيلي ونظام تعاون إقليمي جديد على غرار أوروبا. ويتمسك قلة من المثقفين على شعلة الحماس العربي والقومية متقدة. وهم غالباً ما يكونون في الخارج، في لندن أو باريس، أو في عواصم غربية أخرى حيث يتشاجرون حول ما إذا كانت العروبة والقومية العربية في حالة ركود، أم أنها في مرحلة التعافي.

كان الشعور بـ"العروبة" قائماً منذ أن وطأت أقدام العرب مسرح التاريخ، وظلت محل تفاوض من قِبَل كل جيل لما يقرب من ألف عام ونصف. في هذا الجيل، يجب أن يتكيف هذا الشعور "العروبي" مع ازدياد الولاء للدولة العربية القطرية، ​​وتنامي التيارات الإسلامية، والانتصار العالمي للديمقراطية الليبرالية، وصعود رأسمالية السوق، والاختراقات التي حققتها إسرائيل في عدد من الدول العربية، واحتمال السلام معها. كانت جميعها عوامل أثرت سلباً على القومية العربية في تطورها على مدار معظم القرن الماضي ولغاية اليوم.

 لا شك أن "العروبة" قادرة على استيعاب التحديات الجديدة، كما فعلت دائماً. فالقومية العربية ـ وهي إبداع حديث لهذا القرن ـ قد تتلاشى تماماً تحت وطأتها. ولكن مهما كانت آفاق القومية العربية، فإن تاريخها حتى هذه اللحظة يمثل أحد أبرز الأمثلة على سرعة نشوء أي قومية حديثة وصعودها وتراجعها. هذا التاريخ يستحق رواية جديدة، لأنه لم يُستدعَ في النقاش الأوسع حول تنامي عدم الاستقرار.

لقد كان هناك وقتٌ حظيت فيه القومية العربية بمكانةٍ بارزةٍ في الدراسات المقارنة للقومية، لكنها أصبحت لاحقاً حكراً على المتخصصين. حاول المؤرخان البريطاني "أرنولد توينبي" Arnold Toynbee والمؤرخ الأمريكي "هانز كون" Hans Kohnدمج القومية العربية في إطارٍ مقارن أوسع، أصبحا مناصريها الفعليين بين الحربين العالميتين، على الرغم من تحفظاتهما على القومية في كتابهما "القومية العربية: هوية خاطئة" Arab Nationalism: Mistaken Identity. لقد قبل ـ توينبي للسياسة البريطانية، وكوهن للصهيونية - أكثر شعارات القومية العربية تطرفاً باعتبارها بيانات عن حقائق اجتماعية أو ادعاءات أخلاقية لا تقبل الجدل، ولم يروا أياً من التناقضات الكامنة وراءها.

ضمن رصدِ خصائص المثقّفين، كنّا قد أوردنا في مؤلَّف سابق "العقل الإسلامي.. عوائق التحرّر وتحدّيات الانبعاث" (2011) أصنافا ثلاثة من "المثقّفين" حاضرة بوفرة في قطاع الثقافة العربية أطلقنا عليها نعوت: النّائم، والسّائم، والهائم. نستعيد توصيفاتها وملامحها بإيجاز في هذا المقال لصلتها بحديثنا عن الفكر المستقيل. يُعتبَر الصّنف النّائم الأعلى نسبة بين الأصناف الثلاثة. فقد كانت المؤسّسات التّربوية والتعليمية الناشئة مع بداية الاستقلال، في حاجّة ماسّة إلى كوادر محلّية مما حثَّ على دمج عناصر واهِنة، يشحذ السواد الأعظم منها وَهْمُ التغيير الحالم، فتحوّلت وظيفة التعليم معهم إلى حرفة ميكانيكية. والصّنف الثاني، وهو صنف المثقّف السائم، فقد انعكس الواقع السياسي الاجتماعي المأزوم على ذهنية كثيرين سلبًا، الأمر الذي خلص على إثره المثقّف إلى أنّ دوره في إصلاح تلك البنية الاجتماعية الثقافية متعذّر ومنعدم. وأمّا الصّنف الثّالث، وهو الهائم: إذ جرّاء التشتّت الهائل الذي لحق الشريحة المثقّفة، وقعت فئة من بينهم رهينةَ العبث واللاّيقين، مما حوّل منتهى إدراكها إلى انسداد تاريخي، تجلّى في ترديد مقولات موت الفلسفة، وموت الشعر، ونهاية الكاتب، ونهاية التاريخ، وغيرها من القوالب البائسة. وتقبّلها العقل المنفعِل وحاكاها، محدِّثا النفس بالانخراط في حركة الفكر العالمية، والحقيقة أنه لم ينخرط سوى باستهلاك موبقاتها.

فمع الفكر المستقيل يغدو تغييب التفكير تقليدا جاريا العمل به، وإن خلّف ضررًا فادحًا بتحوّل مروياته، وحكاياته، وأخباره، وأمثاله، إلى ما هو مألوف ومعتاد بين الناس. ولا يتوقّف تعطيل التفكير عند حدود الأفراد، بل يمتدّ ليشمل جموعا واسعة تجد أريحية في استحضاره والحفاظ عليه. يتأمّل المرء فئات متعلّمة لدينا، في مجالات الطبّ والهندسة والتقنيات، مَثَّل التفكير العلمي، والاختبار التجريبي، والتمحيص العقلي، ديدنَ انشغالاتها، غير أن تلك الفئات المهمّة في مجتمعاتنا بمجرّد عودتها إلى مهدها الأوّل، نقصد حاضنة المجتمع، إلّا وتتخلّى عن ذلك الطابع المعرفي الذي حصّلته طيلة مشوارها التعليمي وتكوينها الدراسي. لذلك لا تفرّق في كثير من الأحيان بين المتعلّم وغير المتعلّم، وبين الدارس والأمّي، في النهل من معين الخرافة والأسطورة والركون سويا إلى اللامعقول واللامنطق. فهل هي سطوة التفكير الخرافي التي تثقل الوعي الجمعي وتحُول دون إرساء رؤية سويّة أم هو الانفصام في الشخصية الذي نعاني منه وآثاره الفاعلة والعميقة؟

إنّ ما حدث في قطاع غزة إبان انتفاضة طوفان الأقصى هو حرب إبادة جماعية خاضها الكيان الصهيوني على أبناء غزة العزل. وقد مثّلت انتفاضة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر منعرجا حاسما في مسار الصراع العربي – الإسرائيلي. وقد أحدثت انتفاضة طوفان الأقصى تغيّرات سياسية عميقة في الوطن العربي.

و أدّت انتفاضة طوفان الأقصى إلى عودة القضية الفلسطينية بإعتبارها قضيّة عادلة إلى المنابر الأمميّة والإقليمية من جديد. وتعاطفت معظم الدول العربية والأجنبية مع الشعب الفلسطيني بعد الاعتداء الصهيوني الهمجي على أبناء قطاع غزة، فقد خاض الجيش الصهيوني حرب إبادة جماعية بهدف القضاء على الهوية الفلسطينية. ومن الدول التي أدانت حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني دول المغرب العربي وفي مقدمتها تونس التي ظلّت معقل مساندة للقضية الفلسطينية منذ ذكرى النكبة سنة 1948 "قيام الكيان الصهيوني"

سنسلط الضوء في هذه الدراسة على ردود فعل الحراك الاجتماعي المغاربي تجاه حرب الإبادة الجماعية على غزة. كما سيتم رصد الآليات التي اعتمدتها المنظمات المغاربية لإدانة حرب الإبادة الجماعية.

الكلمات المفاتيح: الإبادة الجماعية، غزة، حراك، مغاربي، إجتماعي.  

تقديم

تعدّ انتفاضة طوفان الأقصى التي اندلعت يوم السابع من أكتوبر2023 بمثابة عملية عسكريّة نفذتها المقاومة الفلسطينية في غزة على الإحتلال الصهيوني. وشملت هذه الانتفاضة هجوما بريا وبحريا وجويا للمقاومين إلى بعض المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلّة عبر السيّاج الحدودي الفاصل بين قطاع غزة وبعض مدن الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وتعدّ عملية إنتفاصة طوفان الأقصى من أكبر الانتفاضات التي عرفها التاريخ الفلسطيني المعاصر ضد الاحتلال الصهيوني. ويرى المحللون السياسيون والعسكريون أن هذه الانتفاضة مثلت حدثا إستراتيجيا في الصراع العربي الصهيوني.

كسرت انتفاضة طوفان الأقصى أسطورة "الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر"، حيث تمكن عدد صغير من المقاومين الفلسطينيين في غزة من الدخول إلى المستوطنات الصهيونية وأسر حوالي 300 صهيوني.

وعلى الصعيد الدولي أدّت هذه الانتفاضة إلى إبراز صلابة المقاومة الفلسطينية على الساحتين العربية والدولية.

وضمن السياق ذاته عادت القضية الفلسطينية العادلة إلى المنابر الأممية حيث اعترفت عديد الدول لأول مرّة بالدولة الفلسطينية.

وكردة فعل على انتفاضة طوفان الأقصى بادر جيش الآحتلال الصهيوني إلى شنّ حرب على قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر2023. فشنت الطائرات الصهيونية مساء السابع من أكتوبر هجوميا جويا على غزة ثم قامت في اليوم الموالي بإكتساح بري لقطاع غزة.

وارتكب الإحتلال الصهيوني بعد انتفاضة طوفان الأقصى جرائم فظيعة تعجز الألسن على وصفها تمثلت في قتل آلاف الأطفال والشيوخ والنساء، إضافة إلى تدمير المنشآت الحيوية مثل المستشفيات والمدارس وغيرها. وكانت الاعتداءات الصهيونية في حق الفلسطينيين همجية إلى أبعد الحدود. ووصفت حرب الصهاينة على قطاع غزة بحرب الإبادة الجماعية التي أدانتها أغلب المجتمعات والدولية وخاصة المجتمعات المغاربية التي استكنرت حرب الإبادة الجماعية على غزة.

هل كانت المواقف الشعبية في منطقة المغرب العربي متطابقة مع المواقف الرسمية للأنظمة السياسية؟

وكيف أدان المجتمع المدني المغاربي هذه الإبادة؟

أصبحت الكثير من الدراسات في السنوات الأخيرة تحلل موضوع "الهويات الأوروبية"، أو تستخدم مفهوم "الهويات" في دراسة الاتحاد الأوروبي. وهذا أمر لا يمكن قوله عن المراحل السابقة في دراسات الاتحاد الأوروبي. حتى وإن تناوله بعض الرواد المؤسسين لدراسات الاتحاد الأوروبي في أعمالهم. على سبيل المثال، عرّف عالم السياسة الأمريكي المتخصص بالعلاقات الدولية "إرنست هاس" Ernst Haas التكامل الأوروبي بأنه عملية تنطوي على "تحول الولاءات" من قِبَل "الجهات الفاعلة السياسية في العديد من البيئات الوطنية المتميزة" إلى "مركز سياسي جديد.

في حين أدرج آخرين "الشعور بالمجتمع" في مفهوم للتكامل. إن الاهتمام الأكاديمي المتزايد بدراسة الهويات في أوروبا يستجيب لما تسميه بعض الباحثين "الدوافع الخارجية" و"الداخلية". إن الاهتمام الأكاديمي بالموضوع هو استجابة للتغيرات "على الأرض"، أو المحركات الخارجية. لقد كان سياق ما بعد الحرب الباردة، وما بعد ماستريخت، وحتى ما بعد "الحرب على الإرهاب" سياقاً حيث أصبح التكامل الأوروبي وأنواع معينة من الجدل حول الهوية أكثر إثارة للجدال. وقد أثار هذا تساؤلات حول العلاقة بين الهوية، من ناحية، وشرعية مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وآفاق الديمقراطية ذات المغزى خارج الدولة ومستقبل الاتحاد الأوروبي ذاته من ناحية أخرى. وعلاوة على ذلك، أدى التوسع الكبير والمستمر للاتحاد الأوروبي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، واحتمال عضوية تركيا، والصراع المتزايد حول التعايش بين التقاليد المسيحية والإسلامية والعلمانية في المجتمعات الأوروبية، إلى زيادة التنوع الثقافي في الاتحاد الأوروبي وأهمية المناقشات حول الهوية. ومع ذلك، فإن الاهتمام الأكاديمي بالهويات الأوروبية يعكس أيضاً تطور المناقشات النظرية حول الاتحاد الأوروبي، أو المحركات الداخلية. ليس من قبيل المصادفة أن يتزامن الاهتمام المتزايد بقضايا الهوية مع بداية ما تم وصفه بالمرحلة الثانية "تحليل الحكم" والمرحلة الثالثة "بناء الاتحاد الأوروبي" من بناء النظرية، والتي تركز المزيد من الاهتمام على قضايا السياسة والسياق الاجتماعي للتكامل الأوروبي.

«إنّ الانسجام هو المطلب الأوّل عند الفيلسوف وهو، مع ذلك، جدّ قليل. والمدارس اليونانيّة القديمة تقدّم عنه أمثلةً أكثر ممّا نجد في عصرنا التّوفيقي، الّذي تُبْتَدع فيه توليفاتٌ سطحيّة وغير نزيهة بين تناقضات أساسيّة، لأنّها تتمتّع بالقبول لدى جمهور يقنع بمعرفة القليل عن كلّ شيء، دون أن يعرف في العمق أيّ شيء..»[1]   

«إن وجهتنا الوحيدة هي التحليل «العلمي» لـ«عقل» تشكّل من خلال إنتاجه لثقافة معينة، وبواسطة هذه الثقافة نفسها: الثقافة العربية الإسلامية. وإذا كنا قد وضعنا كلمة «العلمي» بين مزدوجتين، فذلك إقرارا منّا منذ البداية بأن هذا البحث لا يمكن أن يكون علميا بنفس الدرجة من العلمية التي نجدها في البحوث الرياضية أو الفيزيائية. إن الموضوع هنا هو شيء منا، أو نحن شيء منه، فنحن أبينا أم رضينا مندمجون فيه. وكل أملنا هو أن نتمكن، في هذا البحث، من الصدور عن الالتزام الواعي لا عن الاندماج المشيء للفكر المعطل للعقل»[2]

فاتحة:

   أشرتُ في الهامش 30 من المقال الأوّل[3]، الّذي ناقشتُ فيه اعتراض العمري في كتابه "البلاغة العربية" على محمد عابد الجابري، إلى أنّ هذا المعترض حاول في مقاله اللّاحق «الوظيفة البلاغية والرؤية البيانية» المنشور ضمن المؤلَّف الجماعي «محمد عابد الجابري، المواءمة بين التراث والحداثة» إعادة الجابري إلى "النّظام البياني"، ووعدت بالوقوف عنده. وفي هذا المقال، وفي ما سيليه، سأركّز على مناقشة ما سطّره عن الجابري ابتداءً من الصفحة 104 تحت عنوان: " ثانيا: الجابري من الفلسفة إلى البلاغة"! وقد فضلتُ ألا أتعرّض لما قبل ذلك مما قاله تحت عنوان "أولا: الفلسفة والبلاغة"، ترفّعا عن مناقشة إسفافه في حضرة مفكّر فيلسوف. والنزّاهة تقتضي أن أحمل ما قصد إليه، مما تركتُ مناقشته هنا من كلامه المُمَهّد، على أحسن الوجوه الممكنة. وأبتدئ في هذا المقال بالوقوف عند ما سمّاه بـ "البلاغة في نسق «العقل البياني»، وذلك لارتباط مضمونه بما سبق أن أثاره في كتابه "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها"، وأقف عند ادّعاء عجيب جديد يتمثّل في كون الجابري تحوّل عن عقلانية ديكارت وبداهته إلى البلاغة، وعند ما اعتبره نقطة التحوّل؛ على أن أخصّص لما سمّاه بـ "البلاغة التطبيقية" مقالا ثانيّا؛ وأجعل المقال الثّالث تركيبا للاستنتاجات، ومناقشة لها في ضوء الـ "رّؤيةٍ" الّتي يقول إنّه ينطلق منها، والـ "منهج" الذي يدّعي أنّه يصطنعه.

   المقال الأوّل الآتي يدور حول محورين، الأوّل هو اعتراض العمري على الجابري وما رصده لهذا الاعتراض من براهين، والثّاني ادعاؤه " تحول الجابري من الفلسفة إلى البلاغة". وأوضّح، في هذه الفاتحة، أنّ "الاعتراض" و "الادّعاء" وما يستندان عليه، كل ذلك ورد في المقال، موضوعَ المُدارَسَة، منتشرا مختلطا؛ لذا، فإنّ مناقشتَه تقتضي، بالإضافة إلى تلخيصه، ترتيبه وتخليصه من هذيان عظيم. وسأبتدئ من الاعتراض، وأُثَنّي بالوقوف عند دعاوى التّنبّه التّدريجي للجابري وتحوّله، في النّهاية، من الفلسفة إلى البلاغة عند نضجه واكتمال أدواته!

تهزّ أوروبا أزمات دورية في علاقتها بمهاجريها العرب، متنقّلة من بلد إلى آخر ومتحوّلة من قضية إلى أخرى. وهي في الواقع أزمات نابعة من طغيان الخواء الثقافي، وتدنّي حضور المثقّفين العاملين وسط هذه الجموع المستوطنة، أو لنقل إشراكهم في تقييم الأمور وطرح حلول عملية لها. إذ ينبغي أن نقرَّ أنّ العنصر الثقافي وسط ملايين العرب المقيمين والمستوطنين في دول القارة، والبالغ عددهم زهاء العشرين مليونا، ضئيل وباهت، بفعل فتور التعويل على ذلك الجانب الرمزي أو الاستثمار فيه. فهناك دول قاحلة، بالمعنى الثقافي، في ما له صلة بالثقافة العربية، وهو ما انعكس ضبابية، وأحكاما مسبقة، وخوفا، وريبة، ونفورا، بين المكوَّنات الاجتماعية "الدخيلة" و"الأصيلة".

والسؤال كيف الخروج من أسْرِ التوتر الدوريّ في علاقة عرب أوروبا مع واقعهم الغربي؟ بادئ ذي بدء يبقى حلّ المشكلة بأيدي عرب أوروبا، أي هؤلاء المستوطنين والمقيمين في أحضان القارة، أكانوا ممن اندمجوا في سياق مجتمعاتها أو ممن هم في طور الاندماج. إذ ثمة مراجعات وتساؤلات حول هوية العرب الأوروبيين، ولا نقول العرب في أوروبا لأن الغلبة ستؤول للشقّ الأول، ينبغي تناولها بهدوء وواقعية. فالوعي الديناميكي بمفهوم العروبة، وحده القادر على مراعاة الغيرية، وطمأنة الآخر، وبثّ الثقة لديه. وهو الرهان الفاعل والحاسم، حتى لا تبقى الجموع المستوطنة في أوروبا عائمة. ولِيُحاصَر ذلك التنافر لصالح تآلف وتآنس حقيقيين. فليست أوروبا وحدها أمام هذا الاختبار الحضاري الإشكالي، في استيعاب "الدخيل" وهضمه، بل الجموع العربية أيضا هي طرفٌ رئيس في هذا التحدّي، لذلك كلاهما فاعل ومفعول به.

التاريخ ليس مجرد تتابع لأحداث متفرقة أو حوادث متوالية، بل هو نسيج معقد تشكله قوى عميقة وتحركات فكرية واجتماعية تصنع مصير الشعوب والحضارات. ولطالما كان فهم المحركات الكبرى للتاريخ الشغل الشاغل للفلاسفة والمفكرين، الذين سعوا لتفسير كيف ولماذا تتغير الأمم، ولماذا تزدهر الحضارات وتنحدر، وما القوى الكامنة التي تقود هذا المسار اللامتناهي من التبدّل والتحول.

لقد شهدت الفلسفة الغربية إسهامات متنوعة، حيث يُعد هيجل من أبرز الفلاسفة الذين قدّموا تفسيراً للتاريخ من منظور مثالي، عبر مفهومه الشهير "الجدل" أو الديالكتيك الهيجلي، والذي ينظر للتاريخ على أنه صيرورة من الأفكار المتصارعة والمتكاملة. فبالنسبة لهيجل، يقود الصراع بين الأطروحة ونقيضها إلى "تركيب" أعلى، مما يحفّز التقدم نحو حرية الروح وتطور الفكر الإنساني. وفي هذا السياق، يشير هيجل إلى أن التاريخ هو مسيرة نحو تحقيق الحرية المطلقة والعقلانية، إذ يرى أن الدولة تجسد "الروح المطلقة" التي تتجلى في الواقع المحسوس، ممهدة الطريق لفهم دور القيم والأفكار في تشكيل التاريخ.

لكن على الجانب الآخر، جاء كارل ماركس ليقدم تفسيراً مادياً لظواهر التاريخ، متجاوزاً المثالية الهيجلية إلى ما سماه بـ المادية التاريخية. فقد رأى ماركس أن التاريخ محكوم بالبنى الاقتصادية وأنماط الإنتاج، وأن الصراع الطبقي بين الطبقات المسيطرة والمهمشة هو القوة المحركة الأساسية للتغيير. وفقاً لماركس، تنتقل المجتمعات عبر مراحل تاريخية (مثل العبودية والإقطاع والرأسمالية)، حيث يُنتج كل نظام شروط زواله. إن الثورة والصراع الاجتماعي، في نظر ماركس، هما المحركان الأصيلان للتاريخ، حيث ينتهي الصراع الطبقي عند تحرر البروليتاريا وتأسيس المجتمع الشيوعي.