توجيه الوعي لتعزيز الثقافة الرأسمالية النيو ليبرالية
إلى جانب استخدام الذكاء الاصطناعي لتعظيم الأرباح وترسيخ السيطرة الاجتماعية، تُوظَّف هذه التكنولوجيا بشكل ممنهج لتشكيل وعي الأفراد وتوجيهه تدريجيًا، بهدف تعزيز الثقافة والأفكار الرأسمالية، وخصوصًا تمجيد الحضارة الغربية، وبشكل أكثر تحديدًا القيم الرأسمالية الأمريكية. من خلال تحليل البيانات وسلوك المستخدمين والمستخدمات، تُستخدم الخوارزميات للتحكم في المحتوى الذي يُعرض لهم عبر المنصات الرقمية، مثل شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث وغيرها، ويتم تصميمها بحيث تُغذّي الأفراد بمحتوى يتماشى مع القيم التي تدعم الرؤية الرأسمالية وسياساتها وافكارها.

على سبيل المثال، وفي معظم المنصات الرقمية، تُعرض الإعلانات والمحتويات الترويجية التي تُشجّع الأفراد على شراء المزيد من المنتجات، حتى عندما لا تكون لديهم حاجة حقيقية لها. كما يتم الترويج لقيم الرأسمالية مثل أزلية الملكية الخاصة، والتفاوت الطبقي، والنجاح الفردي، والثروة، والاستهلاك، وأنماط الحياة الفاخرة كمعيار للحياة "الناجحة". مثال آخر على ذلك هو خوارزميات محرك البحث "غوغل"، التي تُصنّف النتائج وفقًا لمنطق السوق والإعلانات المدفوعة، لا وفقًا للأهمية الاجتماعية أو الفكرية أو العلمية للمحتوى. فعند البحث عن مفاهيم مثل "النجاح"، "التنمية الذاتية"، أو حتى "السعادة"، تظهر النتائج الأولى مرتبطة بشركات تطوير الذات، ودورات مدفوعة، ونصائح استهلاكية تقوم على الفردانية والربح، في مقابل تغييب أو تهميش التحليلات العلمية الرصينة والأفكار اليسارية والتقدمية، بل وحتى عدم اظهارها ويعني حضرها بأشكال مباشرة أو غير مباشرة في العديد من الحالات.

يؤدي هذا إلى توجيه الوعي الجماعي نحو قبول هذه القيم باعتبارها طبيعية وحتمية. ويتم ذلك بأسلوب تدريجي ناعم وغير محسوس وعلى مدى زمني طويل، إلى الحد الذي يجعل معظم مستخدمي ومستخدمات تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بمن فيهم أصحاب الفكر اليساري والتقدمي، يعتقدون أنها أدوات محايدة. إن هذه السياسة تُشكل خطرًا بالغًا على الأجيال القادمة، التي أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من حياتها اليومية، وتُسهم هذه الأساليب والسياسات الدقيقة في تكريس الهيمنة الرأسمالية أكثر فأكثر، وتعزيز ولاء الجماهير وخنوعها للنظام القائم.

أُلقي القبض في الأسابيع الأخيرة في لبنان على عدد من المشتبه بهم بالتعاون مع إسرائيل والمكلفين بالتجسس على حزب الله، مما ألقى الضوء مجدداً على مدى انتشار وعمق التجسس الإسرائيلي في لبنان، والذي يُعتقد أنه منح الكيان الصهيوني ميزة كبيرة في حربها الأخيرة.

يقول محللون إن مستوى اختراق الموساد لدوائر حزب الله لم يكن ممكنًا إلا بتجنيد هؤلاء الجواسيس في لبنان. وأفادت التقارير أن حزب الله فقد آلافًا من مقاتليه في هجمات إسرائيل خلال الحرب الأخيرة.  فقد أعلنت السلطات اللبنانية عن اعتقال أربعة أشخاص على الأقل في الفترة الأخيرة. ينحدر معظم المشتبه بهم من جنوب لبنان، وبعضهم لديه أقارب قضوا في صفوف حزب الله.

في النبطية، جنوب لبنان، أعلن جهاز أمن الدولة أنه ألقى القبض على رجل عُرف بأحرفه الأولى باسم أ.س. بعد عودته من إسرائيل "التي دخلها خلسةً".

وأفاد بيان صادر عن جهاز أمن الدولة أن المشتبه به "اعترف خلال التحقيق معه بحيازته جهازاً متطوراً زوده به الإسرائيليون، يُستخدم لمراقبة وتصوير بعض المراكز المهمة في لبنان، ويتيح التواصل المباشر بينه وبين العدو الإسرائيلي"، مضيفاً أنه أُعطي سترة لإخفاء مبالغ نقدية كبيرة لاستخدامها في مهامه التجسسية. وزُعم أن أ.س. اعترف ببدء تعامله مع إسرائيل منذ بدء حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023. وصرح جهاز أمن الدولة بأنه تم ضبط جميع المعدات التي قدمتها إسرائيل والتي عُثر عليها في منزله.

وفي الفترة نفسها تقريباً، أعلن الجيش اللبناني عن إلقاء القبض على متعاون آخر مشتبه به، قيل إنه جُنّد عبر فيسبوك. أفادت التقارير أن الشخص الذي عُرف باسم ح.ع. من قرية بيت ليف الحدودية الجنوبية كان عضواً في حزب الله، وقدّم معلومات للإسرائيليين عن قادة الجماعة المسلحة. وورد أنه زار إسرائيل تحت حماية طائرة إسرائيلية مسيرة كانت تراقب كل تحركاته. ولم يتضح بعد كيف أو متى عبر إلى إسرائيل، لكن القوات الإسرائيلية لا تزال متمركزة في أكثر من 60 بلدة وقرية حدودية في جنوب لبنان، على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار الذي ينص على انسحابها.

كما ألقي القبض على رجل آخر من جنوب لبنان، يُقال إن عائلته معروفة بانتمائها الوثيق لحزب الله، ولديه أقارب لقوا حتفهم في الحرب، من قبل مخابرات الشرطة اللبنانية، أو شعبة المعلومات. ووفقاً لتقارير إعلامية محلية، فإن هذا الشخص، الذي انتشرت صورته على نطاق واسع على الإنترنت بعد انتشار خبر عمله المزعوم مع إسرائيل، قدّم أيضاً معلومات حساسة عن قادة حزب الله مقابل ما يصل إلى 20 ألف دولار.

أفادت التقارير أنه سافر إلى تركيا حيث التقى بمسؤولي تجسس إسرائيليين كلفوا بمهام من بينها جمع معلومات استخباراتية عن مراكز حزب الله في قرى جنوب لبنان. كما طُلب من الرجل جمع معلومات عن مستودعات أسلحة حزب الله وكيفية استلامها وتوزيعها.

وأُلقي القبض على جاسوس رابع مشتبه به من منطقة البقاع شرق لبنان، حيث استهدفت إسرائيل عشرات البلدات والقرى بشكل مكثف. وقد أُحيل جميع المشتبه بهم إلى الجهات المختصة لمزيد من التحقيقات.

يحمل الصمود أو ما يمكن ترجمته حرفياً بـ "الثبات" ـ بصفته مفهوماً وطنياً فلسطينياً ـ معنى العزيمة القوية، والإصرار على البقاء في الوطن والتمسك بالأرض.  ويُرجّح أن الصمود كان جزءًا من الوعي الفلسطيني الجماعي بالنضال من أجل الأرض والتشبث بها، يعود تاريخه على الأقل إلى عهد الانتداب البريطاني. إلا أن الصمود، كرمز وطني استخدم في ستينيات القرن الماضي. وأصبح جزءًا من إحياء الوعي الوطني الفلسطيني بعد نشوء حركات المقاومة الفلسطينية كمنظمات رائدة في مخيمات اللاجئين في الأردن ولبنان. حيث كان اللاجئون المقيمون في المخيمات يُعرفون بالصامدين، إذ كان النضال من أجل الحياة اليومية والحقوق الوطنية في تلك المجتمعات يتطلب مستوى عالياً من الصمود. لقد عزز الصمود رسالة الكفاح المسلح التي سيطرت على خطاب الحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك. وكان الحاضر الأكبر حين تغيرت الأدوات من النضال المسلح إلى المقاومة اللاعنفية

الصمود هو أكثر من مجرد سمة شخصية، فهو أداة ثقافية ونفسية تربوية فعّالة، وقد أصبح سمة مميزة للمقاومة اللاعنفية في فلسطين. يأتي صمود النساء الفلسطينيات خاصة كنموذج حيّ وعالمي للصمود في ظلّ ظروف بالغة الصعوبة. لهذا النموذج إمكانات تعلّمية هائلة، لا سيما في فلسطين، كما يُجسّد الصمود سرديةً فلسطينيةً راسخةً تتحدى المحاولات العديدة لقمعها أو تشويهها، كما هو الحال في كثيرٍ من الخطاب الغربيّ الشعبيّ حول فلسطين. الصمود إذن فعلٌ من أفعال الوجود والتأكيد على الحق في الحياة على أرض الأجداد.

لقد شهدت المئة عام الأخيرة من التاريخ الفلسطيني ندوباً من النزوح، والتشريد، والنفي، والفقدان. فبالإضافة إلى التطهير العرقي ومصادرة أراضيهم، واجه الفلسطينيون أيضاً تشويهاً متعمداً لتاريخهم وإنسانيتهم. يشعر السكان المدنيون الفلسطينيون يوماً بعد يوم بآثار احتلال عسكري يُعدّ الآن من أطول الاحتلالات في التاريخ المُدوّن، إذ تمتد جذور هذا الظلم إلى عام 1948 حين طردت إسرائيل وهجرت بقوة السلاح حوالي مليون فلسطيني مما أصبح فيما بعد يُعرف بدولة إسرائيل. يتعرض الفلسطينيون الباقون لتمييز ترعاه الدولة، يؤثر على كل جانب من جوانب حياتهم. ومما زاد الطين بلة، أن الواقع الكئيب للمحنة الفلسطينية قد خيم عليه خطاب "سلام" هش وغير فعال خلال العقود القليلة الماضية، لم يترك مجالاً للقصص اليومية عن معاناة الفلسطينيين.

ونظراً لطول المدة التي تحملوا فيها هذا القمع والظلم الصهيوني، فإن هناك عقلية معينة تربط الفلسطينيين ببعضهم البعض. غالباً ما تُغفل، وبالتأكيد لا يتشاركها الجميع، ولكن لا يزال يُنظر إليها على أنها سمة فلسطينية أصيلة. إنها تتعلق بشعور مشترك بالهوية، والحفاظ على القوة الداخلية في مواجهة كل الصعاب - التكامل في مواجهة التشرذم، والحياة في مواجهة الموت. هذا ما يعنيه الفلسطينيون عندما يتحدثون عن الصمود والثبات.

ليس اللجوء مجرّد ظاهرة اجتماعية أو نتيجة حتمية لنزاع سياسي؛ ولا هو ملفّ حقوقيّ يمكن تدبيره بقرارات المنظمات الدولية أو بلاغات التضامن الموسمية. لا، إنّ اختزال أزمة اللاجئين في أبعادها الإدارية أو الإغاثية لا يفعل سوى تعميق الجرح، لأنّه يتعامى عن الطابع البنيوي لهذه المأساة. فاللاجئ ليس شذوذاً عن النظام العالمي، بل هو نتاجه المباشر، مرآته المعتمة، وضحيّته التي تفضح هشاشته.
من هنا، يكون دور الفلسفة غير قابل للتأجيل، لأنّ الفلسفة، حين تخرج من برجها العاجي وتتمرّد على مقامها الأكاديمي، تصبح فعلاً مقاوماً، وموقفاً تحررياً، وصوتاً للذين لا صوت لهم. إنّها، كما أرادها بعض حكمائها، صوت المقموع في حضرة المنتصر، وصرخة المعنى في وجه السيولة التي تحوّل الإنسان إلى فائض وجوديّ.
الحديث عن اللاجئ، إذن، ليس حديثاً عن ضحيّة، بل عن جهاز إنتاج للضحيّة، عن منظومة تصنع المنفيّ كما تصنع البضائع، وعن حداثة لم تعد قادرة على توفير مأوى حتى للإنسان الذي أنتجته.
ليست بداية أزمة اللجوء كما توهّم البعض مرتبطة فقط بتاريخ الهجرة من المستعمرات نحو المركز الأوروبي، بل كانت منذ بداياتها الأولى دليلاً على انهيار العلاقة العضوية بين الفرد والمكان، بين الذات والتاريخ، بين الهوية والوطن. لم تكن المسألة مسألة انتقال جسدي، بل تفكك رمزي، وتشظٍّ وجوديّ جعل من الشتات شرطاً إنسانياً جديداً.

يُعدّ التفكير النقدي ـ وهو مهارة متجذرة في التقاليد الفلسفية الغربية ـ حجر الأساس للابتكار والديمقراطية والتقدم لقرون. وبينما نواجه تعقيدات القرن الحادي والعشرين، يبدو أن هذه القدرة التي كانت ثمينة في السابق تفقد تأثيرها على الوعي الجماعي. فمن الفصول الدراسية إلى قاعات الاجتماعات، غالباً ما تُطغى ردود الفعل الانفعالية والمعلومات المضللة والتفكير الجماعي، على قدرة التفكير والتحليل والتساؤل. إن تراجع التفكير النقدي في الغرب ليس مجرد مشكلة أكاديمية مجردة، بل هو أزمة ثقافية ذات عواقب واقعية.

إن التأمل في أصل التفكير النقدي يقود إلى اليونان القديمة كمهد لهذا النهج الفكري، بفضل مفكرين مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو. تحدى سقراط، بأسئلته الثاقبة، الافتراضات، وحثّ أتباعه على البحث عن الحقيقة بدلاً من الاكتفاء بالإجابات السهلة. وقد أرسى منهجه السقراطي، وهو شكل من أشكال الحوار الجدلي التعاوني، أسس التفكير الغربي.

ومع حلول عصر التنوير، عاد التفكير النقدي إلى الواجهة. فقد أكد فلاسفة مثل جون لوك وإيمانويل كانط وفولتير على العقل كأداة لفهم العالم وتحسين الظروف الإنسانية. وقد ألهمت هذه الأفكار الثورات، والتقدم العلمي، وصعود قيم الديمقراطية.

ولكن مع ازدياد تعقيد المجتمعات، ازدادت الحاجة إلى المهارات المعرفية للأفراد. فالمهارات التي كانت تُمكّن الجماهير من المشاركة في الحكم والابتكار آخذة في التراجع. لماذا؟ لأن الحياة العصرية أدخلت عوامل تشتيت وتشوهات، ومجموعة من الإخفاقات المنهجية التي تُضعف قدرتنا على التفكير النقدي.

التهديد الصامت للتكنولوجيا

في العصر الرقمي، تُعدّ التكنولوجيا معجزة وتهديداً في آنٍ واحد. فبينما تُتيح وصولاً غير مسبوق للمعلومات، فإنها تُهيئ بيئةً يُمكن فيها تجاوز التفكير النقدي بسهولة. فعلى سبيل المثال، يُغرد الناس بمحتوى قصير مُصغّر مُصمم لإثارة ردود فعل عاطفية بدلاً من الاستجابات المدروسة. فكّر في كيفية عمل الخوارزميات. تُعطي الأولوية للتفاعل، ما يعني غالباً عرض محتوى يُعزز معتقدات المستخدمين. بدلاً من استكشاف وجهات نظر مُتنوّعة، ينتهي الأمر بالناس في غرف صدى، حيث نادراً ما تُناقش آراؤهم. لا تقتصر هذه الظاهرة على السياسة فحسب، بل إنها مُنتشرة في جميع جوانب الحياة، من الثقافة والسلوكيات مروراً بالنصائح الصحية إلى خيارات المُستهلكين.

عادة ما يُنظر إلى الهجرة الأفريقية إلى أوروبا على أنها موجة عارمة من الناس اليائسين الهاربين من الفقر والحروب في أوطانهم محاولين الدخول إلى جنة الأوروبية المراوغة. تشمل "الحلول" النموذجية التي يقترحها الساسة زيادة الضوابط الحدودية، أو تعزيز التنمية الأفريقية "القائمة على البقاء في الوطن". ولكن هذه الآراء تستند إلى افتراضات خاطئة جوهرياً بشأن حجم الهجرة وتاريخيها، وطبيعة وأسباب هذه الهجرة. وتتجاهل الخطابات السائدة أن الهجرة الأفريقية إلى أوروبا يغذيها الطلب البنيوي على العمالة المهاجرة الرخيصة في القطاعات غير الرسمية. وهذا يفسر لماذا فشلت سياسات الهجرة التقييدية دائماً في وقف الهجرة وخلفها تأثيرات ضارة مختلفة. كما أن التنمية الأفريقية من غير المرجح أن تحد من الهجرة لأنها ستمكن وتلهم المزيد من الناس على الهجرة. وعلى الرغم من الخدمة الشفهية التي يتم تقديمها لـ "مكافحة الهجرة غير الشرعية" لأسباب سياسية ودبلوماسية، فإن الدول الأوروبية أو الأفريقية ليس لديها الكثير من الاهتمام الحقيقي بوقف الهجرة.

الفيضان القادم

في السنوات الأخيرة، حظيت الهجرة غير النظامية من أفريقيا إلى أوروبا باهتمام واسع النطاق. إن التقارير الإعلامية المثيرة والخطابات الشعبية تؤدي إلى ظهور صورة كارثية لموجة أو "هجرة" من الأفارقة "اليائسين" الفارين من الفقر في وطنهم بحثاً عن "النعيم" الأوروبي، محشورين في سفن مهترئة منذ زمن بعيد لا تكاد تطفو على سطح الماء. ومن المعتقد عموماً أن الملايين من الأفارقة من دول جنوب الصحراء الكبرى ينتظرون في شمال أفريقيا العبور إلى أوروبا، الأمر الذي يغذي الخوف من الغزو.

إن الحكمة التقليدية التي تقوم عليها مثل هذه الحجج هي أن الحرب والفقر هما السببان الجذريان للهجرة الجماعية عبر أفريقيا ومنها. وتختلط الصور الشعبية للفقر المدقع والمجاعة والحرب القبلية والتدهور البيئي في صورة نمطية لـ "البؤس الأفريقي" باعتبارها الأسباب المفترضة لموجة المد المتضخمة من المهاجرين الأفارقة المتجهين شمالاً.

غالباً ما ينظر الأوروبيون إلى أفريقيا باعتبارها مكاناً شاقاً للعيش، حيث يسعى سكانها للهجرة إلى القارة العجوز. وتصور وسائل الإعلام والسياسيون والعلماء أنفسهم الحركة في القارة على أنها تدفق من الجنوب إلى الشمال عر شمال إفريقيا كبوابة إلى أوروبا. ومع ذلك، فإن هذا الخطاب غير مستنير ولا يعمل إلا على ترسيخ فكرة "الغزو الأفريقي" في المجتمع الأوروبي، والتي توفر في الوقت نفسه الأساس لتأمين الهجرة وإخراجها.

إن الساسة ووسائل الإعلام على جانبي البحر الأبيض المتوسط ​​يستخدمون عادة مصطلحات مثل "الغزو الشامل" و"الطاعون" لوصف هذه الظاهرة. في يوليو/تموز 2006 حذر الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك من أن الأفارقة "سيغرقون العالم" ما لم يتم بذل المزيد من الجهود لتطوير اقتصاد القارة. ولا تلجأ وسائل الإعلام والسياسيين فحسب إلى سيناريوهات يوم القيامة كثيراً لإثبات وجهة نظرهم، بل وأيضاً العلماء. على سبيل المثال، صرح عالم البيئة البريطاني "نورمان مايرز" Norman Myers مؤخراً بأن التدفق الحالي للاجئين البيئيين من أفريقيا إلى أوروبا "سيُنظر إليه بالتأكيد على أنه مجرد قطرة إذا ما قورن بالفيضانات التي ستحدث في العقود المقبلة".

في الدنمارك يريد حوالي ثلثي الدنماركيين وقف الهجرة. وفي ألمانيا حيث يعد موضوع الهجرة ديناميتاً سياسياً. وفقاً لاستطلاع رأي أجري في أكتوبر 2024 من البوابة الإلكترونية Statista، صنف حوالي 35٪ من المشاركين موضوع "الهجرة واللجوء والأجانب" باعتباره المشكلة المجتمعية الأكثر أهمية في ألمانيا - أكثر من أولئك الذين كانوا أكثر اهتماماً بالاقتصاد أو تغير المناخ. في جميع أنحاء أوروبا، ازدادت حدة الخطاب حول الهجرة.

رغم مرور أكثر من مئة عام على خطاب الرئيس الأمريكي “ودرو ويلسون” الذي ألقاه في العام 1916 بمناسبة بداية ولايته الرئاسية الثانية، حيث ينسب إليه مقولة “أن عَلَمَ أمريكا ليس علَمهَا وحدها، بل هو عَلَم الإنسانية جمعاء” إلا أن هذه النبوءة لم تتحقق، ولم يصبح علم الولايات المتحدة علماً للإنسانية، بل أصبح علماً للشر وقتل الشعوب والغطرسة ونهب خيرات الدول. صار وجهاً قبيحاً للعنصرية والتمييز لم تنجح أفلام هوليود في تجميله.

نزعة السيطرة على العالم، والاعتقاد أنهم وحدهم المهيئين لقيادة العالم، كانت وما زالت في العقيدة الأمريكية منذ الاستقلال. ظهرت هذه النزعة بوضوح بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها الولايات المتحدة منتصرة، فيما بقية الأطراف إما مهزومة أو منهكة اقتصاديا، وعسكرياً، واجتماعيا، وسياسياً. تُظهر تصريحات السياسيين الأمريكيين درجة عالية من الفوقية والاستعلاء والترفُّع على الآخرين، والتكبُّر والعجرفة، والزُهوّ. وتصريحات رونالد ترامب المستمرة تؤكد هده الحقيقة بصورة جلية، حين يواصل القول إنه يتمتع “بتواضع أكبر كثيرا مما يتصور الكثير من الناس”. لكن ادعاءاته بأنه يتمتع بـ “عقل جيد جدًا”، وأنه يمتلك “أفضل الكلمات”، وأنه يعرف “أكثر من الجنرالات”، وتذكيره المستمر بأنه “الفائز” كلها تعزز فكرة أن التواضع هو فضيلة لا يعرفها ترامب.

منفلت من عقاله

بينما يستمر اقتراحه الصادم في إثارة الإدانة الدولية، أصر الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" على أن "الجميع يحبون" فكرته لطرد الفلسطينيين من غزة والسماح للولايات المتحدة بتولي المسؤولية عنها. حيث قال للصحفيين في المكتب البيضاوي عندما سئل عن رد الفعل على خطته: "الجميع يحبونها". مقترح ترامب بشأن تهجير أهالي قطاع غزة من أراضيهم ونقلهم إلى مناطق أخرى، مع سيطرة الولايات المتحدة على القطاع وامتلاكه لفترة طويلة من أجل تنميته وتهيئته لعيش آخرين عليه، أثار العديد من ردود الأفعال الفلسطينية والعربية والعالمية الرافضة لهذا المقترح، بينما أيده مسؤولون وسياسيون إسرائيليون. وكان دونالد ترامب قد قال إنه يريد أن تسيطر الولايات المتحدة على قطاع غزة المدمر بسبب الحرب بعد نزوح الفلسطينيين إلى الدول المجاورة، وتطوير المنطقة حتى يعيش "شعوب العالم" هناك.

اقتراحات الرئيس الأمريكي بشأن غزة، والتي تعكس غطرسته، أثارت ردود فعل من مختلف الأطراف. حيث اعتبرتها حركة حماس في بيان قائلة إن خطط ترامب هي "وصفة لخلق الفوضى والتوتر في المنطقة. لن يسمح شعبنا في قطاع غزة لهذه الخطط بالمرور". جميع الفصائل الفلسطينية أدانت تصريحات ترامب واعتبرتها "طرفة تافهة".

يعيش ملايين الفلسطينيين تحت سيطرة مزيج من السلطات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي مخيمات اللاجئين في جميع أنحاء الشرق الأوسط. في العقود الأخيرة، سيطرت السلطة الفلسطينية على أجزاء من الضفة الغربية، وأدارت حركة حماس قطاع غزة. وفي الوقت نفسه، مارست إسرائيل السلطة على كلتا المنطقتين بطرق مختلفة. يحكم مزيج معقد من السلطات حوالي 5.5 مليون فلسطيني يعيشون في قطاع غزة وأراضي الضفة الغربية. ولا زال الفلسطينيون أصحاب الأرض الأصليين ليس لديهم دولة معترف بها عالمياً. وتعتمد تطلعاتهم إلى إنشاء دولة ليس فقط على القيادة الفلسطينية، بل وأيضاً على الكيان الصهيوني، والاعتراف بها من قبل المجتمع الدولي.

 تمثل منظمة التحرير الفلسطينية الفلسطينيين رسمياً في جميع أنحاء العالم في المحافل الدولية، في حين يُفترض أن تحكم السلطة الفلسطينية، وهي مؤسسة أحدث تقودها حركة فتح إحدى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية معظم مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة. في الواقع، طغت السلطة الفلسطينية على منظمة التحرير الفلسطينية، ومارست إسرائيل سيطرة كبيرة على الأراضي الفلسطينية، بحكم الأمر الواقع.

من المسؤول في قطاع غزة والضفة الغربية؟

وقعت منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في التسعينيات، على اتفاقيات أوسلو واتفاقية غزة أريحا، وهي الصفقات التي قسمت مناطق السيطرة في غزة والضفة الغربية (باستثناء القدس الشرقية) بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية التي تم إنشاؤها حديثًا، على أمل أن تشكل المنطقتان في النهاية دولة فلسطينية. ولكن مع استمرار التغول الإسرائيلي المستمر منذ عقود تظل الأراضي مقسمة رسمياً إلى ثلاث مناطق سيطرة:

المنطقة أ، التي تتكون من معظم غزة وحوالي %17 من الضفة الغربية، هي الأكثر كثافة سكانية وتحضراً. وهي مصنفة على أنها خاضعة للسيطرة الفلسطينية الكاملة بموجب أوسلو، بما في ذلك الشؤون المدنية وقضايا الأمن الداخلي. ومع ذلك، شنت إسرائيل عدة حملات عسكرية واسعة في غزة بهدف القضاء على حماس، وبالتالي فرضت ضوابط حركة أكثر صرامة في المنطقة.

تغطي المنطقة ب ما يقرب من ربع الضفة الغربية وتتكون في الغالب من القرى والمناطق الريفية. يتعاون الإسرائيليون والفلسطينيون في مجال الأمن هنا، لكن السلطة الفلسطينية تدير جميع الشؤون المدنية. كما تسيطر إسرائيل أيضاً على حركة البضائع والأشخاص. يبلغ عدد السكان الفلسطينيين في المنطقتين أ وب مجتمعين حوالي 2.8 مليون نسمة.

تشكل المنطقة ج الأراضي المتبقية وتتكون في الغالب من مناطق رعوية. تحتوي غزة على معظم الموارد الطبيعية في الضفة الغربية وهي تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، على الرغم من أن السلطة الفلسطينية توفر التعليم والخدمات الطبية لسكان المنطقة البالغ عددهم 150 ألف فلسطيني. المنطقة هي موطن لمعظم المستوطنين الإسرائيليين، الذين يبلغ عددهم حوالي 700 ألف شخص منتشرين في جميع أنحاء الضفة الغربية والقدس الشرقية. يعيش معظمهم بالقرب من الحدود مع إسرائيل، على الرغم من أن القانون الدولي يصف مستوطناتهم بأنها غير قانونية.