آخر مقالات الفلسفة والتربية
المزيد
فلسفـة و تربية
يأتي هذا المقال في سياق التفاعل مع مداخلة الأستاذة رحمة بورقية رئيسة المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي خلال الجلسة الافتتاحية للجمعية العامة للمجلس التي عقدت يوم 30 ابريل 2025.
وسيقتصر تفاعلي على مبدإ أثار انتباهي عند تقديم الأستاذة بورقية لمقاربات اشتغال المجلس، حيث اعتبرت أن المجلس يعتمد "مبدأ الموضوعية التي لا تزعج ولا تجامل". وهو ما قادني للتساؤل حول إمكانية التوفيق بين عدم الازعاج وعدم المجاملة في مجلس ينتظر منه تقديم الآراء والتقييمات حول الواقع التربوي بالمغرب، وإفادة كل منظومات التربية والتكوين بمقترحات يراها صائبة وذات جدوى، إضافة إلى إخبار المجتمع عن الواقع الموضوعي لمدرسته وجامعته؟
فكيف يمكن للمجلس الاشتغال وفق هذا المبدأ في ظل التطور الذي عرفته الأدوات الإحصائية ومؤشرات قياس النتائج التعليمية التي تستخدم في تحليل النظم التعليمية ومقارنة تطوراتها، وأيضا مقارنة السياسات التعليمية التي تنفذها الحكومات؟ علما أن هذا التطور أضفى صفة تقنية على تقييم النظم التعليمية، هيمن فيها النقاش التقني على النقاش السياسي. حيث أصبحت نتائج التقييمات أكثر معيارية الأمر الذي يدعم ويبرر التوصيات الناتجة عنها.
وحتى يكون الجواب عن الأسئلة السالفة الذكر موضوعيا، كان لابد من مقاربة "مبدا عدم الازعاج وعدم المجاملة" عبر المحاور التالية:
- المرجعيات الفلسفية لمبدأ "عدم الإزعاج" و"عدم المجاملة"؛
- الأبعاد المهيكلة للمبدأ في الحوكمة التربوية؛
- الديناميات التفاعلية للمبدأ في صنع السياسات التربوية؛
تعيش المدرسة المغربية منذ عقود مخاضًا عميقًا يعكس تحولات اجتماعية وثقافية وسياسية معقدة. فقد أصبحت المؤسسة التعليمية اليوم ساحة لتجاذب تمثلات متعددة للثقافة، تتقاطع فيها الرهانات التربوية مع السياقات المجتمعية والاقتصادية، مما يطرح بإلحاح مسألة حضور البعد الثقافي في المناهج الدراسية ومسالك التكوين الجامعي. وفي قلب هذا الإشكال، تبرز الحاجة إلى تحليل موقع الأدب والفن والفلسفة والعلوم ضمن الهندسة البيداغوجية المعتمدة، بما يسمح بتقويم طبيعة التمثلات الثقافية التي تعيد المدرسة إنتاجها أو تسهم في تحولها.
إن التمثلات الثقافية لا تُختزل في مضامين معرفية جامدة، بل تنبني على تصورات رمزية ومرجعية للعالم والذات والآخر، تشكلها المؤسسات، ومن ضمنها المدرسة، عبر المناهج والكتب والطرائق. في هذا الإطار، ظلت المدرسة المغربية منذ الاستقلال تعيش تنازعًا بين مشروع حداثي يروم ترسيخ قيم العقلانية والانفتاح، ومقاربة تقليدية تميل إلى التلقين والحفظ وتكريس أنماط ثقافية محافظة. هذا التنازع يظهر بجلاء في كيفية إدماج المواد الثقافية في المنهاج، لا سيما ما يتصل بالآداب والفنون والفلسفة، مقابل المواد العلمية ذات الطابع النفعي والوظيفي.
يُسجّل في العقود الأخيرة تراجع نسبي في الاهتمام بالأدب والفنون والعلوم الإنسانية في المنظومة التربوية. فالمقررات الدراسية، خاصة في التعليم الثانوي، غالبًا ما تُقلص من الحيز المخصص لهذه المواد، أو تقدمها بطريقة تجزيئية وجافة، تفرغها من طابعها الإبداعي والتكويني. فمثلاً، تقدم نصوص الأدب في الكتب المدرسية كوسائط لغوية لا كتجارب إنسانية غنية، وغالبًا ما يُعتمد على مقاطع معزولة من سياقها، مما يضعف البعد الجمالي والنقدي فيها. أما الفنون، فقد بقيت في الهوامش، تُدرس أحيانًا كأنشطة موازية، دون أن تحظى بمكانة ضمن المقررات الرسمية أو تحظى بتقييم جدي يعكس دورها في بناء الوعي الجمالي والذوق الثقافي لدى المتعلمين.
أما الفلسفة، التي كان يُنتظر منها أن تلعب دورًا مركزيًا في ترسيخ التفكير النقدي والقدرة على المساءلة، فقد تعرضت لموجات من التضييق والمراجعة، سواء من حيث توقيت تدريسها أو من حيث طبيعة المواضيع المعالجة فيها، والتي أصبحت موجَّهة بشكل أكثر وأقل انفتاحًا على قضايا الراهن وأسئلته المعقدة. كما أن تمثلات المجتمع عن الفلسفة غالبًا ما تظل سلبية، باعتبارها مادة "نظرية" أو "ملغزة"، مما يقلل من إقبال التلاميذ عليها، ويُضعف من موقعها الرمزي في الفضاء المدرسي.
كانت الأسئلة ولا تزال مفاتيح لتبديد حيرة الإنسان إزاء ذاته والموجودات من حوله. كلما استوقفه غموض أو غرابة، إلا وتوسل بتلك العملية الفطرية التي حقق بفضلها قفزات علمية وحضارية هائلة. بل ليس من المبالغة القول بأن أي حدث تاريخي أو علمي أو حتى مأساوي لم يخلُ من سؤال أو أسئلة سبقته، وحفزت البشرية للبحث عن أجوبة.
نتساءل عن كل شيء في حياتنا اليومية، لكن تكمن المشكلة في عدم امتلاكنا المسبق لصيغة تحدد الأسئلة التي يجب طرحها، وتلك التي ينبغي تنحيتها. وحتى يكون السؤال في محله فالمرء بحاجة إلى ما يشبه الموهبة التي يمكن أن يتعلمها؛ كأن النجابة تتوقف على طرح السؤال الجيد الذي يتناسب مع السياق، أي مع البيئة العامة التي توفر للسائل والمتلقي فهما أفضل للتوقعات. لذا تضعنا كتب اللغة والأدب أمام آلاف الوضعيات التي تختبر مقدرتنا على تفكيك الغامض والمبهم والمدهش، بنحت مثير عقلي واضح، يتوقف عليه حدوث استجابة ملائمة، وذلك هو السؤال!
ضمن حكايات وأخبار متفرقة، يحيل ظاهرها على الطرفة والإمتاع، ينبه ابن الجوزي قارئ كتابه (أخبار الأذكياء) إلى ثلاثة أغراض ينشد تحقيقها وهي:
- معرفة أقدارهم (الأذكياء) بذكر أحوالهم.
- تلقيح ألباب السامعين إذا كان فيهم نوع استعداد لنيل تلك المرتبة.
- تأديب المعجب برأيه إذا سمع أخبار من يعسر عليه لَحاقه.
وبين المعرفة والتلقيح والتأديب يتشكل فن السؤال باعتباره مرآة النجابة، ومظهرا أساسيا يكشف عن قوة الفطنة، وقوة جوهرية العقول:
" قال رجل لهشام بن عمرو القرَظي: كم تعُدّ؟ قال: من واحد إلى ألف ألف وأكثر، قال: لم أرد هذا، قال: فما أردتَ؟ قال: كم تعدّ من السن؟ قال: اثنتين وثلاثين سِنّة، ستة عشر من أعلى وستة عشر من أسفل، قال: لم أرد هذا، قال: فما أردتَ؟ قال: كم لك من السنين؟ قال: مالي منها شيء، كلها لله عز وجل، قال: فما سنك؟ قال: عظم، قال: فابنُ كم أنت؟ قال: ابن اثنين، أب وأم، قال: فكم أتى عليك؟ قال: لو أتى عليّ شيء لقتلني، قال: فكيف أقول؟ قال: قل: كم مضى من عمرك؟".
تفتح الأسئلة إذن خيارات التعلم للانتقال بالفرد من وضع التلقي السلبي إلى وضع التعلم النشط والحيوي والمتكامل. لا غرو إذن أن تشكل الأسئلة جوهر العملية التعليمية في فضائنا المدرسي، إذ لا يتصور في الأذهان تدريس خال من طرح الأسئلة، خاصة في ظل المقاربات الحديثة التي تبدي وعيا أكبر بضرورة التمحور حول المتعلم وتلبية احتياجاته.
إن كتاب جان جاك روسو، الذي ولد في 28 يونيو 1712 في جنيف وتوفي في 2 يوليو 1778 في إرمينونفيل، "إميل" أو "في التعليم" هو عبارة عن نصف أطروحة ونصف رواية تحكي قصة حياة رجل خيالي يدعى إميل. في هذا الكتاب، يتتبع روسو مسار تطور إميل والتعليم الذي تلقاه، وهو تعليم مصمم ليخلق فيه كل فضائل "الشخص الطبيعي" المثالي لروسو، والذي لم يفسده المجتمع الحديث. وفقًا لروسو، لا يمكن رعاية الخير الطبيعي للإنسان والحفاظ عليه إلا وفقًا لهذا النموذج التوجيهي للغاية للتعليم، ويذكر روسو أن هدفه في إميل هو تحديد الخطوط العريضة لهذا النموذج - وهو نموذج يختلف بشكل حاد عن جميع الأشكال المقبولة من التعليم. يقترح نظام روسو التعليمي تفاصيل طرق تدريس محددة لكل مرحلة من مراحل الحياة، وطريقة تعليمية تتوافق مع الخصائص الخاصة لتلك المرحلة من التطور البشري. وبناء على ذلك، تم تقسيم إميل إلى خمسة كتب، كل منها يتوافق مع مرحلة من مراحل النمو. يصف الكتابان الأول والثاني عصر الطبيعة حتى سن الثانية عشرة؛ يصف الكتابان الثالث والرابع المراحل الانتقالية للمراهقة؛ ويصف الكتاب الخامس عصر الحكمة، الذي يتوافق تقريبًا مع الأعمار من عشرين إلى خمسة وعشرين عامًا. يدعي روسو أن هذه المرحلة يتبعها عصر السعادة، وهي المرحلة الأخيرة من التطور، والتي لم يتناولها في إميل. في الكتابين الأول والثاني، يصر روسو على أن الأطفال الصغار في عصر الطبيعة يجب أن يركزوا على الجانب الجسدي لتعليمهم. مثل الحيوانات الصغيرة، يجب تحريرهم من القماط الضيق، وإرضاعهم من أمهاتهم، والسماح لهم باللعب في الخارج، وبالتالي تنمية الحواس الجسدية التي ستكون أهم الأدوات في اكتسابهم للمعرفة. لاحقًا، عندما يقتربون من سن البلوغ، يجب تعليمهم حرفة يدوية، مثل النجارة، والسماح لهم بالتطور فيها، مما يزيد من قدراتهم البدنية والتنسيق بين اليد والعقل. ويواصل روسو القول إنه عندما يدخل إميل سنوات مراهقته، عليه أن يبدأ التعليم الرسمي. ومع ذلك، فإن التعليم الذي يقترحه روسو يتضمن العمل فقط مع مدرس خاص ودراسة وقراءة فقط ما يثير فضوله، فقط ما هو "مفيد" أو "ممتع". يوضح روسو أنه بهذه الطريقة سوف يقوم إميل بتثقيف نفسه بشكل أساسي وسيكون متحمسًا للتعلم. سوف يغذي حبه لكل الأشياء الجميلة ويتعلم ألا يقمع انجذابه الطبيعي نحوها. يقول روسو أن فترة المراهقة المبكرة هي أفضل وقت لبدء مثل هذه الدراسة، لأنه بعد البلوغ يكتمل نمو الشاب جسديًا ولكنه لا يزال غير فاسد بسبب عواطف السنوات اللاحقة. إنه قادر على تطوير قدراته العقلية، تحت إشراف معلم يحرص على ملاحظة الخصائص الشخصية لطالبه ويقترح المواد الدراسية وفقًا لطبيعته الفردية.
" الحكايات تُحَف الجنة." مالك بن دينار
مثلما يقف الشعب باعتزاز على الأرض التي حررها بدماء أسلافه وبطولاتهم، فإنه يستلهم كيانه وهويته، ومُثُله وقيمه من ثقافته الشعبية التي تشكلت على مدار أزمان غابرة، لتصبح ذخيرته الحية، وعملته الحقيقية المتداولة في حاضره وغده.
ولأن الحكاية الشعبية جزء أصيل من تلك الثقافة، ووسيلة كل شعب لحفظ ذاكرته وخياله المشترك، فإنها لقيت عناية كبيرة لما تعكسه من تجارب حياتية، وأحلام ومخاوف، وآمال تلتمس التعويض في عالم مثالي. كذلك كانت الحكاية الشعبية حتى وقت قريب، قبل أن تداهمها التكنولوجيا بترسانة هائلة من وسائل الترفيه والتسلية، وتنزع عن الجدّات ثياب الحكواتي!
إن وظيفة حفظ التاريخ والذاكرة لا تمنع الحكاية الشعبية من أن تظل إنتاجا حيا ومتواصلا، ينسج من خلالها العقل البشري عالما مثاليا يطمح لتجسيده في واقعه، ويستدرك من خلاله نقائص المجتمع وخطاياه. تلك الاستمرارية رهينة إلى حد كبير باستثمارها كمدخل بيداغوجي، واعتمادها أداة ناجعة للتعلم، وتمرير القيم الأخلاقية، وتأسيس جمالية الحكي داخل فضاء تعلمي تفاعلي.
لهذا الفن القديم خصائصه ومرتكزاته التي تميزه عن سائر الأجناس الأدبية؛ حيث تتمتع الحكاية الشعبية ببساطة البناء والأسلوب، وبلغة خاصة ومتميزة تحقق الإيحاء والإثارة الفنية المطلوبة. للحبكة فيها دلائل نفسية وقيمية يصل دويها إلى أعماق المستمع. متحررة من خصوصيات الزمان والمكان والشخوص، مما أتاح لبنائها وتركيبها أن يكتسب سمات العالمية. هكذا تنقلت حكاية "سندريلا" من خلال ثلاثمئة وخمسة وأربعين نصا مختلفا، عبر رقعة تمتد بين روسيا وإيرلندا، فهي في إيطاليا "سينيرنتولا"، وفي فرنسا" سندريلون"، وفي ألمانيا" اشينبويل"، وفي المجر "بوبلوث"، وفي روسيا" جيرنوشكا"، بينما يرقى تاريخها في الصين إلى ما قبل سنة 800 ميلادية تحت اسم" يه هسين"، قبل أن تأخذ في الشرق لقب "ست الحسن".
تقوم الحكاية الشعبية على سرد مباشر يروم الإقناع والتأثير، ويتخذ من المغامرات الخيالية والأحداث الغريبة موضوعا له. وقد تكون الأحداث حقيقية، غير أنها مُزجت بآمال الناس وأحلامهم وخلاصات تجاربهم، فحررتها من صلتها المباشرة بالواقع لتعتمد على الخوارق والعجائب، وتضفي على الطبيعة الإنسانية المتشابهة في كل مكان وزمان، أزياء محلية متنوعة. ولذلك التشابه العالمي تفسيراته، من بينها الترجمة، والنشاط التجاري بين البلدان، بالإضافة إلى تحركات الجموع البشرية الموسومة بالهجرة.
مقدمة :
يعتبر كارل يونغ (1875 - 1961) مؤسس علم النفس التحليلي و واحدا من أهم رواد مجاله. أسس ما يسمى اليوم ب "علم النفس اليونغي" و الذي يختلف عن غيره من فروع علم النفس بعدة مميزات، من ضمنها بعض المفاهيم الجديدة التي صاغها و عرفها من خلال كتبه، إضافة إلى نظرياته التي باتت جزءا لا يتجزأ من الأدبيات العلمية المتعلقة بعلم النفس.
يركز علم النفسي اليونغي على الطفولة كونها فترة جد مهمة للنمو النفسي لدى الفرد، إذ أنها الفترة التي تتشكل فيها الأنماط الأولية و يكتشف الطفل ذاته ويبني تكامله النفسي و العاطفي خلالها. و في نفس السياق، فإن أدب الأطفال شكل من أشكال الفنون التي تقوي اتصال الفرد بالعالم حوله و تصقل إنسانيته و حسه الفني لتجعل منه كائنا حساسا ينتمي إلى مدرسة الرومانسية و تعلمه كيفية التواصل مع أحاسيسه الأكثر تعقيدا. فكيف يؤثر أدب الأطفال في نموهم السيكولوجي و كيف له أن يساهم في تكوين شخصيتهم؟
أدب الأطفال كوسيلة للتربية و التعليم :
إلى جانب سبل التعليم التقليدية التي تعتمدها معظم المدارس الحكومية في العالم، شهد المجال التربوي ظهور أساليب جديدة تهدف إلى جعل عملية التعلم أكثر متعة بالنسبة للطفل. من بين هذه الأساليب نجد القصة المصورة التي تمكن المعلم من تحقيق أهداف دراسية عديدة من خلال نشاط واحد، إذ أن القصة المصورة تساعد الطفل على تعلم القراءة والتعود عليها، و تلقنه الأخلاق و القيم الحسنة، كما تمده بالمعرفة الثقافية و العلمية.
من الطبيعي جدا أن يجد الطفل ذاته من خلال التعرف عليها في شخصيات خيالية معينة و أن يتعاطف معها و مع قضاياها؛ هذا إن دل على شيء فإنما يدل على قدرة الطفل على رصد الأنماط الأولية (Archetypes) التي تحتوي عليها معظم الكتب و الروايات، سواء أ كانت للصغار أم للبالغين. تعتبر هاته الأنماط الأولية لدى كارل يونغ إمكانات فطرية يتم التعبير عنها في السلوك والتجارب البشرية و تعززها التجارب الفردية والثقافية[1]. انطلاقا من ملاحظة هذه الأنماط و رصدها من خلال التفاعلات الاجتماعية التي تحدث خلال فترة الطفولة، يتمكن الطفل من بناء نظرة أولية على المجتمع و فهم مكامن النفس البشرية المعقدة بطبيعتها. إضافة إلى الملاحظة التي تعد أداة من أدوات التعلم، فإن القراءة وما تقدمه من رصيد معرفي للأطفال كما للبالغين تغنيهم علما و اطلاعا على اﻷنماط اليونغية التي تؤطر تفاعلاتهم الاجتماعية خلال حياتهم البالغة. يعد أدب الأطفال بمثابة وسيلة لدمقرطة القيم و الروح الأخلاقية، وذلك بفضل العنصر القيمي الذي يزخر به هذا الصنف الأدبي، إذ يقدم الكاتب عادة شخصيات خيالية عديدة منها الخَيِّرُ و منها الشرير، كما ينشر من خلال اللغة و جماليتها حب الجمال و تفضيله، و يقدم دروسا حياتية للقارئ عبر حبكة أدبية مميزة من شأنها أن تنمي الحس الإبداعي لدى الطفل. ثم إن تشجيع الأطفال على القراءة يدفعهم إلى التعود على هذا النشاط التعلمي، مما يجعل مسارهم الدراسي حافلا بالنجاح و التميز الأكاديمي، و يغرس حس الفضول وحب المعرفة فيهم منذ الطفولة ليعودهم على ما فيه نفع لهم.
قبل أن يوجد المخرج كانت النصوص المسرحية تحمل في طياتها إرشادات وتوجيهات، تحدد شكل العرض وصياغته المشهدية. وبتتبع تاريخ العرض المسرحي في كل الحضارات، أمكن رصد التشكلات الأولى لدور المخرج باعتباره مسؤولا عن الولادة الثانية للنص، من خلال تنظيم مكوناته من أداء، وديكور، وموسيقى، وأضواء.
في القرون الوسطى كان ترتيب المناظر والحيل المسرحية، كما يصفها أرسطو في كتابه (فن الشعر) يقع على عاتق مدير اللعبة Meneur de jeu، وهي المهمة التي قد يتولاها الممثل الأول في الفرقة أو حتى مصمم الديكور. لكن في نهاية القرن التاسع عشر سيترافق ظهور الإخراج، كمكون أساسي في العملية المسرحية، مع ميلاد السينما، والتغيير الهائل الذي أحدثته في تركيبة الجمهور وأذواقه. وسعى منذ ظهوره إلى التجريب والبحث عن صيغ وجماليات متنوعة. لكنه خلال رحلته المديدة التي يُرجعها العلماء إلى زمن الفراعنة، لم يلتفت لجمهور الصغار إلا قبل مئة عام أو يزيد قليلا.
من المعلوم أن مسرح الطفل نشأ في سياق البحث عن طرائق تربوية جديدة لتربية وإرشاد الأطفال. وبفضل المنجز الذي حققته الأبحاث في ميادين علم النفس، برزت سمات وخصائص نمائية لمرحلة الطفولة، شجعت على توظيف المحاكاة الفطرية التي يتمتع بها الطفل منذ سنواته الأولى، ضمن إطارها الفني، عبر ثلاث محاور: التمثيل للطفل، والتمثيل مع الطفل، ثم الطفل يمثل بمفرده. هكذا نشأت بوادر الكتابة المسرحية للطفل، وتقريب مكونات العرض المسرحي من عالم الطفولة الفريد، ومن بينها الإخراج بطبيعة الحال.
إن تطوير الذوق الفني والجمالي للطفل، وبناء ثقته بنفسه، وتغيير توجهاته الفكرية والثقافية والاجتماعية لهي أهداف يلتئم حولها كاتب النص ومخرجه. بمعنى أن العرض المسرحي الذي يؤديه الطفل ويشاهده، ليس فقط وسيلة تربوية لغرس القيم، وتوجيه السلوك وجهة محمودة، وإنما هو أيضا اندماج مع عالم مواز لحياته اليومية؛ أعني عالم المسرح بتقنياته المختلفة، من اكسسوار وماكياج وإضاءة ومؤثرات صوتية. وهو الاندماج الذي يحتم العناية بالعملية الإخراجية، والتعرف على أسسها وقواعدها التي تسهم في إعداد الممثل الصغير.
يلج الطفل عالم المسرح متوسلا بميله الفطري إلى المحاكاة. تلك المهارة المتجذرة في طبيعته الإنسانية والتي تعتمد على الصوت والجسد في تقليد الآخرين، واكتساب المعارف الأولية، بالإضافة إلى التأثر بما يجري في محيطه. وهي في الوقت نفسه إحدى خواص الفن المسرحي، متى أحسن المدرس أو المنشط تحفيز أداء الطفل، وإعداده لتجربة متنوعة تعتمد الاستخدام الكامل لإمكاناته.
ليس الهدف بالضرورة خلق ممثل محترف، إذ يؤمن الطفل في النهاية بأن الأداء المسرحي هو لعبة للتنفيس عن توتره، وتنظيم انفعالاته، ومعالجة بعض مشاكله النفسية كالخجل وعيوب النطق. لكن ما الذي يمنع من الارتقاء بما يجري داخل الفصل الدراسي، أو في دور الشباب ومراكز الطفولة، إلى ممارسة واعية وممتدة، تتحرر من البساطة والتلقائية المعهودة لتربية الممثل الصغير؟
قدم المسرحي الروسي قسطنطين ستانيسلافسكي منهجا وطريقة في تدريب الممثل، تهتم بتفجير ملكات المخيلة والإبداع. وهو يؤمن بأن الممثل الذي يستشعر الموقف الوهمي، لن يجد صعوبة في التجسيد وإظهار العواطف والانفعالات الملائمة. وتعتمد طريقته على استرخاء الجسم والصوت، وتركيز الانتباه، وتحفيز الخيال دون فرض قواعد أو نماذج مسبقة.
يرتكز إذن تدريب الممثل وفق أسلوب ستانيسلافسكي على:
- الاسترخاء: وذلك من خلال تمارين يتم تنفيذها مع كل جزء من أجزاء الجسم على حدة، وتهدف لتقليل التوتر، والسيطرة التامة على الصوت والجسد. ويمكن تشبيه الاسترخاء هنا بعملية ضبط الآلة الموسيقية قبل العزف.
- التركيز: ويتضمن اختيار الممثل لموضوع أو مشكلة محددة للتدرب عليها. ويخدم التركيز هنا عدة جوانب من بينها: عزل الممثل عن التشويش الخارجي، وتحرير العقل ليتمكن من خلق المشهد المتخيل، ثم العيش في الجو التمثيلي كأنه حقيقة واقعية" مثلا التدريب على حمل كوب من الشاي، حيث يستعين الطفل بكوب حقيقي، ثم يحاول أن يستعيد تلك الخبرة مع كوب خيالي، مستحضرا وزنه وملمسه والسخونة التي يسببها".
تبدأ علاقة الطفل بالقصة والحكاية مستمعا ثم قارئا؛ لكن المسرح بإمكاناته الهائلة ينقله إلى عالم جديد قوامه التمثيل والفرجة، والمزج بين التعبيرات المتعددة على الخشبة. وهو انتقال يتطلب بالأساس اهتماما بالسمات النفسية التي تُمهّد لعلاقته بالمسرح؛ حيث إن الطفل يولد فنانا، يقول بابلو بيكاسو، لكن المشكل هي كيف نحتفظ بهذا الفنان بينما يكبر.
غير خفي إذن أن مسرح الطفل تتحكم في إنتاجه اعتبارات تربوية وفنية، متسقة بطبيعة الحال مع النمو النفسي والإدراكي والمعرفي للطفل. وهذا يعني أن إعداد عمل مسرحي ينطلق من استيعاب للخصائص السيكولوجية للطفل والمراهق؛ لأن عدم الاهتمام يؤدي في النهاية إلى تقديم عروض مسرحية ضعيفة أو مربكة لقدراته الذهنية. وبالنظر إلى عدد السنوات التي يقضيها الطفل في حضن المدرسة الابتدائية، يمكن التمييز بين مرحلتين أساسيتين:
- مرحلة الخيال الحر والمطلق، حيث يتطلع الطفل في الفترة ما بين 6 إلى 9 سنوات إلى عوالم خيالية، تستوعب رغبته في المتعة والانطلاق خارج حدود واقعه اليومي. لذا يُظهر ميلا شديدا لقصص الحوريات والعمالقة والأقزام، وللحكايات المستلهمة من التراث الشعبي.
- مرحلة البطولة والمغامرة والخيال الواقعي، وهي الممتدة إلى سن 12 سنة، حيث يبدأ تحرر الطفل تدريجيا من عالم الخيال، ليصير تفكيره أكثر نضجا واستعدادا لإظهار الشجاعة والمسؤولية. وخلال هذه المرحلة تستهويه قصص المغامرة التي تعتمد التفكير والتوقع، وتجعل من شخصية البطل قالبا ملائما لتمرير القيم والمواقف، وتأكيد ارتباطه بالقضايا الاجتماعية والإنسانية المختلفة.
تحدد تلك الخصائص وجهة المدرس أو المنشط في اختيار النص المسرحي الذي يتناسب مع إدراك الطفل واحتياجاته. نص ينبغي أن يتحقق فيه قدر من التبسيط، ووضوح العلاقات بين شخصياته، وبناء درامي تتنامى داخله الأحداث بشكل تسلسلي لا يعتمد القفزات المفاجئة.
بالنظر إلى الصعوبات التي تكتنف الكتابة المسرحية للطفل في العالم العربي، فإن المدرس أو المنشط يجد نفسه أمام خيارين: إما إيجاد نص ملائم، أو بذل جهد إضافي يتمثل في مسرحة نص أدبي " قصة، حكاية، شعر..." مع متطلبات البناء المسرحي. وفي كلتا الحالتين لابد من مراعاة بعض القواعد التي تجعل النص ملائما لنفسية الطفل وقدراته.
نقد الواقعية الساذجة والانتقال إلى الإدراك
ما دام أن متعارض اليقين الحسي ينكشف باعتباره كونيا، سواء من وجهة نظر هذا، أنا أو علاقتهما، وأن معرفته تنكشف بوصفها وسيطة، يكون جدله قد اكتمل. إن التجربة التي قام بها لمعرفته ومتعارضه هي حركة جدلية تتبع هيجل "تاريخها البسيط" (184/68). ولكن على الرغم من أن اليقين الحسي الطبيعي يتحرك بالضرورة نحو متعارضه الحقيقي (في هذه الحالة، موضوع الإدراك)، فإنه يبدو في هذه المرحلة عالقا في تأكيد متكرر لحقيقة هذا المحسوس. اليقين الحسي يقوم بتجربة متعارضه بالتأكيد؛ إلا أن "هذا ما لن يعمل دائماً مرة أخرى سوى على نسيانه، ويبدأ الحركة من جديد منذ البداية" (185/ 69). يعترف هيحل بأن الوعي يتعامل مع العديد من هذا، وأن أنوات عديدة تشكل على التوالي حدوسا مختلفة، وذلك بطريقة متكررة. لكن كل تجربة فردية توضح العملية الجدلية التي تم تقديمها للتو، مما يعني أنه إذا كان اليقين الحسي يبدأ دائما الحركة مرة أخرى من البداية في ظروف أخرى، فإنه يصل دائما إلى إلغاء تأكيده الأول وأن يقوم باختبار متعارضه باعتباره كونيا. وهكذا يؤدي كل استئناف للحركة إلى برهان جديد على لاحقيقة هذا المحسوس. وهذا ما يسميه هيجل "التجربة الكونية" (185/69). وهو بذلك يعارض الجدل المقدم للتجربة الكونية المفترضة بحقيقة هذا المحسوس.
في الواقع، وباعتراف الجميع، يبدو أن ما هو حسي وفريد يشكل الحقيقة. بيد أن هيجل لا يرفص فقط التأكيد على أن وجود هذا الحسي سيشكل "حقيقة مطلقة للوعي" (185/69)، حقيقة ستكون موضوع تجربة كونية، ولكنه يرفض كذلك الفكرة التي مفادها أن الأمر قد يتعلق هنا ب"تأكيد فلسفي" وحتى ب"نتيجة للشكوكية" (المرجع نفسه). إنه يتمرد بشكل أقوى ضد إسناد مثل هذا التأكيد إلى الشكوكية، الذي كان قد سعى بالفعل إلى إظهاره، في مقالته عام 1802 حول "علاقة الشكوكية بالفلسفة"، بحيث أن الشكوكية الأصيلة لا تقبل الوجود الحسي المفرد. وهذه الشكوكية الأصيلة، في رأيه، هي شكوكية العصور القديمة – البيرونية والأكاديمية الجديدة. فقط الشك الحديث، ممثلًا في زمن هيجل على وجه الخصوص بواسطة جوتلوب إرنست شولز، يحقق مثل هذه النتيجة: وحده الوجود الحسي حقيقي. غير أن تأكيد وجود أو حقيقة هذا المحسوس يتجاهل أن ما يقوله مخالف لمقصوده، لأن كل تأكيد لتعيين حسي فردي محكوم عليه بأن يلغى بالوعي واستبداله بتعيين آخر هو نفسه ملغى، وهكذا دواليك. وحده الكوني يبقى. ولذلك فإن هذا التأمل الثالث حول اللغة يصر على حقيقة أن كل الوعي يختبر الهذا باعتباره كونيا.
لقد أثبت جدل اليقين الحسي بالفعل أن المعرفة المباشرة البحتة للمتعارض المحسوس كانت مستحيلة. ومع ذلك، يضيف هيجل اعتبارا عمليا، يستهدف "أولئك الذين يؤكدون الحقيقة واليقين، اللذين ناقشناهما للتو، لواقع المتعارضات الحسية" (185-186/69). هكذا تم استهداف أنصار الواقعية الساذجة، التي بموجبها توجد المتعارضات الحسية بشكل مستقل عن معرفتنا ويمكن معرفتها مباشرة عن طريق الحدس. المستهدفون المعاصرون ما زالوا هم جاكوبي، كروج وشولتز. ومع ذلك، فإن هؤلاء الأخيرين أو مؤيديهم "يجب أن يُعادوا إلى مدرسة الحكمة الأكثر بدائية" (186/69). ستكون هذه المدرسة هي مدرسة ألغاز إليوسيس، وهي عبادة مقصورة على فئة معينة مخصصة لديميتر في معبدها في إليوسيس. لكن الأسرار التي يشير إليها هيجل قد تبدو تافهة ومخيبة للآمال، لأنها تتلخص في "فعل أكل الخبز وشرب الخمر" (المرجع نفسه). فكيف يمكن لمثل هذه الأفعال التي ليس لها سر أن تعلم هذه الواقعية الساذجة شيئا؟
تمهيد
مالبرانش فيلسوف فرنسي قسيس 1638- 1715 اراد الجمع بين فكر القديس اوغسطين مثله الفلسفي الاعلى وافكار ديكارت الفلسفية العقلية الايمانية. مالبرانش له فلسفة خاصة حول الرؤية في الله، وينكر السببية، تأثر بكتاب ديكارت حين وجد ديكارت الديني يجمع بين الله وخلود النفس الروحانية. (عن الويكيبيديا بتصرف).
قبل مغادرة هذا التمهيد ديكارت لم يقل النفس روحا خالدة هي والعقل(اللوغوس) وليس العقل البايولوجي(الدماغ) والخلط بين الروح والنفس خطأ لا يحتاج الى شرح تفصيلي بل باختصار النفس هي من خصائص بيولوجيا الانسان وعلم النفس بكل تفرعاته. والروح مصطلح ميتافيزيقي ديني غيبي تتناوشه الشكوك على صعيدي الوجود والماهيّة من كل حدب وصوب حتى العجز عن اعطاء جواب علمي.
مالبرانش في مذهب وحدة الوجود
يذهب مالبرانش ان الوجود لا يتحقق في تجارب القوانين الفيزيائية المشكوك بها بل الوجود يتحقق بالايمان بالله. مالبرانش عن علم مسبق اقتباسي او توارد خواطر فلسفية فهو يكرر ما كان ذهب له سورين كيركجورد انه في تعطيل الاستدلال العقلي والغاء السببية والعليّة التي قال ببطلانها ديفيد هيوم نصل الى حقيقة التسليم ان تحقيق الوجود الايماني انما يتم بقفزة ايمانية في المطلق الالهي الغيبي يقررها القلب وليس العقل.
التساؤل اذا اعتبرنا القوانين الفيزيائية العامة التي تحكم الطبيعة هي قوانين موجودة في الله جزءا فيه !! كما يذهب له مالبرانش فهل نستطيع بدلالة القوانين العامة للطبيعة الموجودة بالله تاكيد وحدة الوجود مابين قوانين الطبيعة الفيزيائية العامة وبين الذات الالهية كما تفعل المذاهب الصوفية؟ اجابتي عن تساؤلي من المحال الجمع بينهما لسببين :
- الله وجود مفهومي ميتافيزيقي غيبي غير مدرك ولا محدود بصفات ولا جوهر. والحلول الصوفي بالذات الالهية امر مشكوك به من الالف الى الياء.
- القوانين الفيزيائية الطبيعية يمكن التحكم بها ماديا ولكن لا يمكنها المجانسة النوعية باي شكل او تدخل في علاقة صوفية مع الخالق الذي كما ذكرنا مفهوم ميتافيزيقي مصدره الايمان القلبي وليس العقل. ماهية الخالق لا تجانس ماهية البشر ولا حتى بالهوية. لذا من الصعب جدا افتراض حلول الذات البشرية الصوفية بذات الالهي التي لا تدرك أن تكون متحققة.
تقديم
مذهب وحدة الوجود لا تنحصر مداولته فلسفيا فقط بعيدا عن الاديان حيث لا يخلو دين من الاديان في العالم قديما وحديثا من التطرق لمبحث مذهب وحدة الوجود ولدى الفرق الصوفية العديدة التي تدين به. مذهب وحدة الوجود مبحثا إشكاليا على صعيدي الاديان والفلسفة على السواء. وتختلف معالجته في تداخله بين الدين والفلسفة، ونتطرق بهذه المقالة الى مفهوم وحدة الوجود في فلسفتي اسبينوزا المثالية وهيجل ألتأملية العقلية.
وحدة الوجود في فلسفتي هيجل واسبينوزا
" مذهب وحدة الوجود عند اسبينوزا يشبه الى حد كبير وحدة الوجود عند هيجل. وأكثر مما يشبه وحدة الوجود عند هنود ألمايا، ويقرّ هيجل على أن اسبينوزا كان محّقا الى حد ما عندما تصّور المطلق جوهرا واحدا، لكن المطلق بالفهم الفلسفي الهيجلي أبعد ما يكون عن فهمه أنه جوهر. لذا نجد وجوب معاملة الجوهر "ذاتا" وليس هناك شيء بالمطلق لا يكون عقليا، من الممكن معرفته وتصوره عقليا. 1. .
توضيح مبدئي
وحدة الوجود عند اسبينوزا حين يلتقي مع فهم هيجل، فهذا مؤشر على وجود إختلاف جوهري كبير بينهما يصل مرحلة التضاد وليس التلاقي بينهما..أهمها بداية أن أسبينوزا يفهم وحدة الوجود فلسفيا بمرجعية لاهوت الإيمان الديني بالخالق خارج عدم ايمانه بالمعجزات، في حين يعمد هيجل فهم وحدة الوجود من منطلق فلسفي عقلاني منطقي على صعيد الفكر لا ديني يقوم على وحدة الادراك الكليّة العقلية في نزعة واقعية مثالية ليست ميتافيزيقية..
اسبينوزا يرى بالمطلق الأزلي الشامل الإلهي جوهرا لا يمكن إدراكه خالق غير مخلوق، بدلالته ندرك الجواهر الاخرى في الطبيعة والاشياء. بينما نجد النزعة العقلية لدى هيجل تذهب خلاف اسبينوزا أن الله والطبيعة والانسان والميتافيزيقا تقوم على فكرة مطلقة واحدة عقلية لا دينية تجد أنه لا يوجد شيء حتى الروح يطالها الإدراك العقلي. فكرة المطلق الهيجلية تجدها تمّثل مدركات موجودات الواقع في كل شيء يدركه العقل. اسبينوزا محق في إعتباره المطلق هو جوهر لا يمكن إدراكه، ليعود ينقض قوله هذا أن المطلق لا يلتقي الجوهر وهو خال من جوهر لا يدركه العقل. تناقض هيجل يتعدّى هنا مفهوم الجوهرفي الوجود الى الفكرة المطلقة التي يطال فيها العقل كل شيء. هيجل يرى المطلق هو الواقع الذي يدركه العقل. مطلق وحدة الوجود عند هيجل هو مطلق إدراك العقل لكل شيء يكون موضوعا لتفكير العقل به. الفكرة المطلقة عند هيجل لا يمكن تحديدها فهي الوجود والصيرورة و الكيف وهي الماهية والطبيعة والفكرة الشاملة.
اسبينوزا ومذهب وحدة الوجود
يذهب والتر ستيس وهو فيلسوف يعنى بالتصوف في كتابه الذي نناقش بعض أفكاره (التصوف والفلسفة) تقديم وترجمة امام عبد الفتاح امام الى ان : المشكلة الأساسية في وحدة الوجود الصوفي تتصل بالعلاقة بين الله والعالم من حيث الهوية والاختلاف، هل الله والعالم متحدان في هويه واحدة ؟ ام انهما متمايزان تماما ؟ (1) كما يذهب له الادراك والتفكيرالذهني العقلي واللاهوت الديني في مختلف الديانات السماوية وعديد من الديانات الأخرى من الذين لا يؤمنون بوحدة الوجود ويعتبرون ان الله والعالم متمايزان ومختلفان بالكينونة والهوية والكيف والصفات ولا علاقة اتحاد بينهما تحصل في أي شكل من أشكال الترابط او الحلول الصوفي بينهما.*
ولا بد من المرور برأي اسبينوزا صاحب مذهب وحدة الوجود الكلاسيكي الذي قال به فلسفيا ان الله شأنه شان جميع الظواهر الطبيعية والموجودات يتكون من جوهر وصفات موزعة على جميع الكائنات الحية والطبيعة والانسان والكوني، لذا نجده يتحدث عن الله والطبيعة او العالم والكون انهم جميعا مترادفات لمدلول ومعنى واحد، ولا يمكن الفصل بينها من حيث انها جميعا تعني دلالة واحدة،هي ان الله موجود في كل شيء، ولا تفريق كيفي هوّياتي مختلف متمايز ذاتيا من أي نوع بينهم. (كما لا يسلّم اسبينوزا باي وجود خالص خارج الطبيعة). ( 2).اي لا وجود لله خارج صفاته التي يمكن ادراكها او التي يتعذر علينا ادراكها ومعرفتنا بها بل نستمدها من الطبيعة.
كما يذهب دارسو اسبينوزا الى ان فكرة وحدة الوجود عنده لا تقوم على منطق فلسفي ذهني ولا على حجة عقلية بل تقوم على فكرة صوفية تماما.بمعنى اكثر وضوحا ان الله وجوده ملحوظ في توزّع صفاته على الطبيعة والانسان والكوني وما عدا ذلك فلا وجود الهي خارج هذه العوالم يمكننا ادراكه خارج صفاته بها وخلقه لها التي نحيا بها ومعها، ومن الملاحظ ان فيورباخ ذهب نفس المذهب في تأصيله نشأة الدين في علاقة الانسان بالطبيعة، ولا وجود من أي نوع من المقدس عابر لهذه الحقيقة قائلا (ان عبادة الله تعتمد فقط على عبادة الانسان لنفسه).
من الواضح ان اسبينوزا في فهمه وحدة الوجود يتأرجح بين الالحاد غير المعلن صراحة، وبين الايمان الذي تعجزه البرهنة عليه، فهو يطرح مسألة وحدة الوجود بتلاعب لفظي فلسفي نجده نحن انه يفترض ان الطبيعة تلتقي ب (الله) بالصفات لا بالجوهر، وانهما الله والطبيعة كلاهما وجود بصفات اختلافية، وهذا الجوهر أساسا ليس مفتقدا بالنسبة لظواهر الطبيعة،كظواهر وماهيات لا حصر لها، لكنه مفتقد بالنسبة ل (الله)، فالله بلا ماهية ولا جوهريمكن ادراكها و معرفتها،وانما يعرف جوهره في مجموع صفاته، صفات لاهوتية تجريدية فقط، كالرحمة ،والقوة، والخير،والمحبة، والعذاب، والعفو،والعظمة، والمقدرة وهكذا، وهذه غير صفاته المدركة حسّيا بالطبيعة وقوانينها المستمدة من الطبيعة في كل ماهو خير يتطلع الانسان الاقتداء به، صفات لاهوتية يقرّها الايمان و لا يقرّ بها العقل والعلم اصلها الطبيعة.
تعريف اولي:
يذهب امام عبد الفتاح امام في هامش تقديمه وترجمته لكتاب والتر ستيس(التصوف والفلسفة) ص259 الذي نعتمده كمصدر وحيد في هذه المقالة، ان مصطلح وحدة الوجود pantheismيوناني مؤلف من مقطعين pan بمعنى شامل أوعام وtheism بمعنى الاله،أي شمول الالوهية لكل شيء، او ان وجود الله ووجود العالم هما ضرب واحد من الوجود.
ومذهب وحدة الوجود في الكتابات اللاهوتية المسيحية التصوفية يشير الى العلاقة بين الله وجزء خاص من العالم، الذي هو الذات الفردية للمتصوف عندما يصل حالة الاتحاد الصوفي بالله. وينسب للبروفيسور ابراهام ولف (ان وحدة الوجود في الفلسفة واللاهوت تعني النظرية التي تقول ان الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله، فالكون ليس خلقا متميزا عن الله، فالكون هو الله، والله هو الكون). 1
لاشك ان التصوف يرتبط ارتباطا وثيقا بالدين واللاهوت الديني في جميع اشكالاته اكثر من محاولات طرحه كاشكالية ترتبط بالفلسفة او المنطق، وهذه الإشكالية ليست لغوية صرف في التأكيد على البلاغة والمعنى كما هو مطروح متداول في الفلسفة الغربية المعاصرة(البنيوية و التفكيكية). وربما تكون دراسة التصوف فلسفيا احدى هذه الإشكالات التي ليس من السهل البت بها او التوصل الى نتائج يمكن الركون لها والتسليم بها، لذا نجد من العبث ربط إشكالية التصوف باشكاليات الفلسفة وموضوعاتها لأننا والحالة هذه لن نصل الى مايرضي الفلسفة ويرضي التصوف معا، فالغيبيات الميتافيزيقية التصوفية طاغية بشكل يصادر الجهد الفلسفي كمنطق لغوي تجريدي ينتظمه العقل، بما اطلق عليه كانط ثم ديكارت منذ القرن السابع عشر نهاية الميتافيزيقا وأن ميادين الميتافيزيقا مضيعة للجهد الفلسفي، فهي ميادين بحثية لا معنى حقيقي لها، و هي المانع الأهم في عدم إمكانية الوصول الى مفاهيم تساعدنا على فهم التصوف فلسفيا. وعليه تكون الجهود المبذولة في ربط التصوف بالفلسفة هي من باب الاجتهادات الفردية في مسائل قد يأتي يوم يؤخذ على الفلسفة انها حاولت العناية بموضوع لايقبل الصدق الحقيقي او الوثوق به في نفس وقت انعدام البراهين التي تجعلنا نثق به وبذا يكون التصوف (ديني وميتافيزيقي فلسفي معا) اذا اريد له ذلك والعودة المتكررة لدراسته فلسفيا.
الترجمة:
تمهيد
"الماركسية بحاجة إلى نظرية للوعي" (موريس ميرلوبونتي).
أفرزت الحياة الفكرية لجمهورية فايمار، من جملة أمور، شكلاً فريداً من الماركسية "المفتوحة" التي ترسخت في فرنسا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بفضل مناخ فكري وسياسي يُذكرنا إلى حد كبير بمناخ فايمار. وصف موريس ميرلوبونتي - الذي يُقال إنه أول مفكر فرنسي أنصف أعمال كارل كورش - هذا التوجه بالماركسية الغربية؛ في الواقع، كما لاحظ ريمون آرون، هو أقرب إلى شكل من أشكال ماركسية أوروبا الوسطى. الممثلون الرئيسيون الثلاثة لهذه الحركة هم جورج لوكاش، وكارل مانهايم، وربما كارل كورش، الذي تُرجم أهم أعماله إلى الفرنسية مؤخراً. اثنان من هؤلاء المفكرين الثلاثة - لوكاش ومانهايم - من أصل مجري. كان الثالث ألمانيًا، ومع ذلك كانت له اتصالات عديدة ومثمرة مع ممثلي الماركسية المجرية طوال مسيرته. وأخيرًا، يشترك الثلاثة في سيرة ذاتية مُعذّبة، لا يخلو عنصرها المأساوي من أي غموض. مأساة جورج لوكاش معروفة جيدًا في الغرب: إنها مأساة ولاء الناشط، الذي يتعارض مع دور المفكر الذي لا ينحصر ولاءه إلا في رسالته. وقد صنّف نشرُ رائعته الأدبية عام ١٩٢٣ جورج لوكاش بشكل لا رجعة فيه ضمن زنادقة النظام؛ ومنذ ذلك الحين، كانت مسيرته الفكرية بأكملها بمثابة رحلة طويلة ومُهينة. حوالي عام ١٩٥٠، وُضعت "نظرية تمويه" مُلائمة لتفسير هذا السقوط من النعمة، أو بالأحرى لإخفاء الأسباب الحقيقية له. كان لوكاش سيتردد في الاعتراف بتفوق الأدب السوفييتي على كلاسيكيات الواقعية البرجوازية العظيمة. منذ تحطيم الواجهة الأيديولوجية للستالينية، بدأت الأسباب الاجتماعية الحقيقية لسقوط لوكاش من عليائه بالظهور. يُعد كتاب "التاريخ والوعي الطبقي" بلا شك أحد أكثر الأعمال الديالكتيكية اتساقًا في الأدب الماركسي؛ فهو، إلى جانب كتاب "الأيديولوجيا واليوتوبيا" لك. مانهايم، أحد الكلاسيكيتين اللتين تناولتا مشكلة الأيديولوجيا والوعي الزائف. في إطار ماركسية أرثوذكسية تبتعد تدريجيًا عن الديالكتيك لتصبح أيديولوجيا بالمعنى الماركسي للكلمة، أي نظامًا فكريًا "متناقضًا... مع الحركة التاريخية الحقيقية"، حُكم على هذا العمل بالفشل. أما مؤلفه، فقد اضطر إلى شراء راحة باله - راحة بال نسبية جدًا - بثمن إنكار أفضل ما في أعماله، وإنكارًا لا يخلو من العظمة. علاوة على ذلك، كان عليه أن ينشر العديد من الأعمال الاعتذارية (بالمعنى الإنجليزي للمصطلح: الاعتذار = طلب المغفرة!)، حيث ينغمس مؤلف كتاب "التاريخ والوعي الطبقي" في مناورة حقيقية من التضليل الأيديولوجي من خلال تقديم، تحت تسمية الماركسية، علموية غريبة عن أي جدلية. بمسار مختلف تمامًا، سينتهي مصير كارل مانهايم بشبهٍ غريبٍ لمصير لوكاش. فعلى عكس لوكاش، اختار مانهايم المعسكر الغربي، وتحديدًا العالم الأنجلو ساكسوني، الذي حظي بإعجاب الأوساط الليبرالية المجرية القديمة. استطاع أن يُشخص مبكرًا الهشاشة الأيديولوجية للعالم الأنجلو ساكسوني، وهي هشاشة ناجمة عن "مقاومته للتغيير": التقليدية البريطانية، والتوافقية الأمريكية، والميل إلى "ضيق الأفق".
الترجمة
تمهيد
" تحليل عمل هيدجر حول التاريخية كمشكلة وجودية من خلال التحليل الأنطولوجي للوجود. ان الهدف هو تحديد البنية المعنوية للزمانية التي تمثلها تاريخية الوجود. يُظهر مارتن هيدجر ونظريته ا الأنطولوجية الأساسية أن مسألة التاريخ تُعدّ من أهمّ مسائل الوجود الإنساني، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلاقة بين الوجود والزمان. تظهر هذه المشكلة على خلفية كشف البنية الديناميكية للتاريخية والزمانية للدازاين. وهكذا، يفتح هيدجر معنى أنطولوجييًا لمسألة الزمان، يُمكّنه من التمييز بين المفهوم "العادي" للزمان والزمانية الأصلية، أي معنى الوجود المتجذر في الزمان، والذي يُسمّى، مع أنماطه، تأويلًا زمنيًا. وفقًا لهيدجر، للوجود طابعٌ مفتوح، وبالتالي فهو دائمًا جزء من العالم، أي أنه في العالم. هذا الانفتاح هو معنى أنطولوجي لـالكائن"هناك"، الدازاين ، إنه لحظة تأسيسية لبنية المرء الوجودانية. الإنسان هو الكائن الوحيد المنفتح على العالم، فهو لا يقبل عالمه سلبيًا، بل يؤثر فيه ويغيّره بنشاط. بناءً على هذا الانفتاح، يستطيع الوجود أن يرتقي بنفسه عن العالم، وأن يعود إلى ذاته، وأن يكون حرًا في استخدام إمكاناته. ولأنه وجود مفتوح، فإن للدازاين علاقة فهم بالعالم وبالانفتاح الأصيل للوجود. يُطلق هيدجر في عمله اللاحق، بعد "الانعطاف"، على "عدم اختفاء الوجود". سيُستبدل مصطلح "الوعي بالوجود" بـ"حقيقة الوجود"، التي ستُعبّر عن نفسها كمكان للوجود، والغرض من ذلك هو منع أي خلط محتمل بين مصطلح "الحقيقة" والمفهوم التقليدي للصواب. إن الأفق الأصيل الذي يكشف عن معنى الوجود وكل ما هو موجود، ويعبّر في الوقت نفسه عن إجابة سؤال الوجود، هو الوعي بالزمان، كشرط الفهم الممكن للزمان، وبالتالي الوجود في الزمان، هو الزمانية.
الترجمة:
"ليس من السهل بالتأكيد تحليل هذا الكتاب الضخم، الكثيف، ضعيف التأليف - أو غير مؤلف على الإطلاق - والمكتوب بشكل سيء، والذي يُثير الإزعاج باستمرار تقريبًا بسبب مظهره المتعمد الذي يُصعّب مهمة القارئ، أو بسبب التناقض الذي نراه بين دقة التفاصيل السخيفة أو المتضخمة أحيانًا والغموض التام لإطاره وبنيته. هل نُكافأ في النهاية على صبرنا الطويل؟ لا نعلم حقًا. بعض الأفكار الحاسمة، سواءً فيما يتعلق بطبيعة الموضوع أو بأسس فكر سارتر، لا تُزيل خيبة أمل كبيرة. وهذه الخيبة لا تُجنّب جوهر العمل. ففي النهاية، بعد الانتهاء من هذه القراءة، وهذه القراءة المُعادَة لأكثر القراء إصرارًا، أين نحن؟ سيستغرق الأمر مئات الصفحات الأخرى لإلقاء نظرة خاطفة عليه. ولكن دعونا نحاول أن نُقيّم الوضع. ماذا يريد سارتر؟ تُخبرنا صفحتان من المقدمة. الماركسية هي الفلسفة الحية الوحيدة في عصرنا. لنفهم أنها وحدها تُجمّل هذه المرة وتجعلها مفهومة لنا. هي وحدها التي تُعبّر عن نفسها عن حركة الوجود والمعرفة التي تُشكّل عصرنا؛ عصر هو أيضًا، كأي عصر، تكرارٌ لكل العصور الأخرى. ومع ذلك، تفتقر الماركسية إلى أنثروبولوجيا أساسية، تختلف عن الطبيعية الساذجة والعقائدية التي غالبًا ما تُشكّلها. كما تفتقر - وهي مفارقة لا تقل إثارة للدهشة ولكنها مفهومة - إلى المفكرين الأصيلين والنشطين الذين سيسمحون لها بمواصلة العمل التأملي للشمولية في العصر الناشئ. ما يُطلق عليه سارتر، دون أوهام، "الأيديولوجية" الوجودية تنبع من هذه الثغرات التي يجب أن تُسدها. ولكن إذا كانت عيوب الماركسية قد ولّدت الوجودية، فإن الماركسية - لأنها "أيديولوجية" - يجب أن تُكافح الوجودية بنفس القدر. وهذا، علاوة على ذلك، هو ما يفعله. سيشرح الكتاب كيف يمكن التوفيق بين هذه الأطروحات، وكيف يمكننا في آنٍ واحد التأكيد على أن الماركسية هي حقيقة عصرنا، وأنها تفتقر إلى الأنثروبولوجيا، وأنها لا تستطيع البقاء على قيد الحياة في حد ذاتها، وأن الأيديولوجية الوجودية، بتأسيسها واستكمالها، لا تنوي سوى الانغماس فيها، لا بل تغييرها. وستكون النقطة التي تتضح عندها هذه التأكيدات جليةً هي أيضًا نقطة إزالة الغموض التام. بل إننا نتساءل إن لم تكن كاملةً لدرجة أن لا شيء يفلت من هذا الوضوح. ومع ذلك، هل كان لكل هذه الطرق الملتوية، والتسويف، والعبثيات هدفٌ سريٌّ يتمثل في تأخير هذه الكارثة النهائية إلى أجلٍ غير مسمى تقريبًا: فالشر، في النهاية، لا يُقهر. كل ما تبقى هو محاربته ما استطعنا، وبكل الوسائل المتاحة. يبدأ الكتاب بسلسلة من المقالات، كانت في الأصل مخصصةً لمجلة بولندية، وأعادت نشرها مجلة "الأزمنة الحديثة". في الواقع، تفترض هذه المقالات أن المشكلات النظرية التي تناولها نقد العقل الجدلي نفسه قد حُلّت. بل إنها تهاجم فلسفة التاريخ التي تُمارسها الماركسية "المبتذلة" والمتصلبة اليوم؛ لذا تنطلق من فرضية إمكانية وجود فلسفة أخرى للتاريخ (وفلسفة تاريخ عامة)، فلسفة تاريخ لا تندرج، دون التخلي عن الماركسية، في فخ القبلية والشكلية ومثالية الأنماط الصرفة، أو بكلمة واحدة ، في فخ "المدرسية" التي كرّس لها لوكاش وغارودي وغوران، وغيرهم. ولكن هذا هو الاحتمال الذي يجب على نقد العقل الجدلي إثباته، وليس من المؤكد أنه سينجح. وأخيرًا، سيتذكر قراء سارتر المحنكون أنه، وفقًا لكتاب "الوجود والعدم"، يُعرّف مشروع الوجود في ذاته لذاته شغفًا لا طائل منه. ووفقًا لهذا المنظور نفسه، لا يُمكن تصوّر أي توافق نهائي بين الداخل والخارج. وهو ما يكفي - على ما يبدو - لجعل أي فلسفة "تجميعية" "تجميعية" على حد سواء "تجميعية" وعبثية. فكيف لنا أن نستغرب إذًا أن تكون "التجميعيات" مجردة، مقيدة، ثابتة، تزدري الملموس، "مثالية"، و"مدرسية"؟ صحيح أن الأمر بالنسبة لسارتر لا يتعدى "تجميعية" في طور التقدم، كليات في حالة اندماج، يجب استعادتها دائمًا. في أي ظروف تكون ممكنة؟
الكتابة الأركيولوجية: تقويض الجدران واستنطاق التربة الأولى.
لم تكن التراجيديا الإغريقية ثمرة ولادة جمالية خالصة، إذ ظلت منذ نشأتها محاطة بالغموض والمفارقة. فهي لا تلوح إلينا كبداية فنية نقية، ولا كحالة تلقائية في المجتمع الأثيني، وإنما كحدث تأسيسي مضطرب، مشدود إلى إله مشبوه ومرفوض: ديونيزوس. كما أن صعوبة النفاذ إلى نواتها الأولى تعود إلى تشابك معطيات متباعدة حدَّ التناقض: تقاليد طقسية، تحوّلات سياسية، أشكال فرجوية، وممارسات ثقافية متداخلة، إذ تضافرت جميعها، رغم تنافرها، لتنتج التراجيديا كضرورة نفسية وجودية للفرد الإغريقي، وكتمثيل رمزي يتجاوز الذاتي والحسي ليبلغ تخوم السياسي وشروط الحكم.
في كتابه الأغورا والأوركسترا، يقترح عبد الحليم المسعودي قراءة مغايرة لهذا التأسيس، معتبرًا التراجيديا واقعة سياسية وثقافية قبل أن تكون فنًّا. فالعودة إلى هذا الشكل المسرحي لا تروم استعادة جوهر جمالي مفقود، بل تسعى إلى تفكيك سيرورة تأسيس هشّة، موسومة بالخوف من الأصل.
بهذا المعنى، لا تُفهم التراجيديا إلا ضمن محنة الظهور الأول، حيث تتقاطع الأسطورة مع السياسة، والمقدّس مع الخطر. ولعل هذا التأسيس المرتبك هو ما يجعل من سؤال الولادة مدخلًا نقديًا لا غنى عنه. فالمسرح لم ينبثق من مسار فجئي أو تراكم تاريخي فحسب، وإنما نشأ من ارتباك رمزي عميق لا يزال يشتغل فينا ويؤسّس وعينا إلى اليوم.
وقبل الولوج في أطروحة الأغورا والأوركسترا، تقتضي الضرورة الوقوف عند طبيعة الأداة والمنهج اللذين اعتمدهما المؤلّف في تشييد خطابه. فهو لا يقدّم عبر صفحات كتابه مقاربة تأريخية أو تأويلًا سرديًا خطيًا تقليديًا، متبنيا نمطًا من الكتابة يمكن وصفه بـ"الأركيولوجي"، مستلهمًا حفريات ميشيل فوكو وتقويضات ما بعد البنيوية. وبهذا التوجّه، يمتنع الباحث عن إعادة سرد تاريخ نشأة التراجيديا، ويتجه بدلًا من ذلك إلى مساءلة ما يُعتقد أنه تأسيس راسخ لها كفنّ "نبيل"، مرتبط بالفعل الأخلاقي والتطهير الأرسطي. ومن خلال تفكيك الطبقات التي راكمها العقل المسرحي الغربي، يعمل على كشف التوترات الأصلية التي طمسها النسق الكلاسيكي، وذلك عبر مساءلة أصول المعنى لا ظواهره.
وهو إذ يتبنّى هذا النمط من التشريح، لا يفعل ذلك بقصد إعادة البناء وفق سرد بديل، وإنما بهدف تقويض منطق التجانس الذي فرضه العقل الكلاسيكي، وفتح المجال أمام تشظّي المعاني وتعدّد القراءات. إنها كتابة تُفكّك التصوّرات المؤسِّسة التي رسّخت صورة التراجيديا كأداة للسمو الأخلاقي والتهذيب السياسي، من خلال تعرية التوترات التي طُمست تحت ركام التأويلات التقليدية. وبهذا المنظور، تُفهم التراجيديا لا كمجرّد شكل فنّي جمالي أو طقس جماعي، بل كبنية حاملة للعنف والقلق، تؤسّس لمساحات رمزية تضبط بها الجماعة ذاتها وتعيد إنتاج نظامها.