مثلت المسائل اللغوية أبرز ما أهتم به الفكر المعاصر لما لها من الأهمية الكبر ى، فقد جسدت وضعية نظرية دقيقة، حيث أصبحت اللغة المركز الذي تدور عليه اهتمامات متعددة في مجالات مختلفة. فانفتاح الثقافات على بعضها البعض ولد الحاجة إلى هذا الاهتمام المتزايد باللغة داخل كل أمة، وداخل كل ثقافة، ذلك أن اللغات لا تختلف باختلاف الشعوب فحسب وإنما تختلف أيضا باختلاف الاهتمامات الفكرية. إذ لا محيد للفكر عن اللغة والخطاب، أو لعل الفكر هو بالأساس لغة. إذا التفكير في بنية خطابات اللغة هو مرتبط بالعالم وبالإنسان. فكم من كلمة أشعلت حروبا وأقامت الدنيا ولم تقعدها. وكم من كلمة تبركنا على أعتابها في أوقات الضيق لتزيل عنا كربنا وغمنا، وقد تأتي هذه الكلمة على لسان علامة أو مفتي، كما قد تأتي على لسان نبي. وكم للكلمات الفواتح من فتح مبين. فوطن كل أمة أو شعب هي لغته التي بها تكلم، ذلك أن اللغة هي الأفق الذي فيه تتحدد علاقتنا بالعالم وبالآخر.
واللغة ، التي نحن بصدد تناولها، لغة ربانية ومعطى سماوي مقدس، إذ نحن بصدد انزياح أو عروج عن وثنية تأصلت في وجدان الأمة العربية الإسلامية. إذ لعلنا اليوم أشد حاجة من أي وقت مضى إلى التفكر في اللغة وباللغة وفي إعادة طرح مسألة الخطاب القرآني، وحل كل رابطات حقوق الله وما تمثله من الرابطات من غطرسة على بنية القول والتفكير.
فباسم المقدس ننسلخ عن آدميتنا، وباسم الدين تتعالى الأصوات لانتهاك ما هو بشري وتطويعه و تركيعه. وصار من الوجوب أن نعيد طرح "جهازنا " المفاهيمي من داخل النص القرآني وفق رؤية تكون مرجعيتها العقل والدين لأنه آن الأوان لرفع كل وصاية على ما هو مقدس، أو لرفع وصاية الأرض عن السماء.
من المعروف أن النص القرآني لا زال يلهم الكثير من القراءات المتعددة، وما تتعرض إليه حضارتنا من هجوم خارجي وداخلي على الإسلام، خارجي وهي نظرة الغرب الصليبية للعرب والإسلام بما هو رمز للإرهاب والتطرف، وداخلي يتمثل في احتكار أو محاولة احتواء النص القرآني من طرف قلة ارتأت لنفسها المشروعية في التكلم باسم الإله، وأنها نخبة الله المختارة على الأرض وما عداها فهو ضلال مبين. فمن الواجب أن يعيد المفكر العربي والمسلم إعادة تفكير الإسلام كمنظومة دينية وفكرية، أي لابد من قراءة جديدة للخطاب الديني بما هو نص شديد الثراء وكثيف المعاني، نص قصصي البنية ورمزي المقاصد، والقطع مع التأويلات الأيديولوجية المسيسة للإسلام. وتجاوز القراءات الدغمائية السطحية للنص القرآني. وفضح كل قراءة تدعي أنها قادرة على معرفة كلام بشكل متطابق مع غاياته النهائية والأخيرة. هذه الضرورة إلى أعادة قراءة النص الأصلي أو الأم سمح بتعدد التفاسير واختلاف الرؤى في تفكيك الخطاب المقدس وهو منهج اشتهر به جاك دريدا1.إذ يطور دريدا منهج التأويل في حواره مع النص الصامت والذي يشكل مصدر لغط وغلو. ولم يبق الخطاب القرآني كوحي أو كحديث للآلهة بل قد ارتبط بالإنسان والنسيان وقد كانت دائما هناك محاولات للهيمنة على هذا الخطاب والسيطرة عليه. وما تميزت بالسطحية في تناولها وتفسيرها للخطاب القرآني والوقوف عند تخوم العبارة وذلك بالتداخل بين المقدس والدنيوي وتظهر الذات الإلهية متجسدة في صورة هي أقرب للبشر منها للآلهة، ويتبدى الخطاب مفعما بروح التضاد والتوتر بين السماء والأرض، خطاب عمودي متعالي أساسه الوعد والوعيد. في هذا التداخل والتشابك بينما هو إلهي فينا وما هو دنيوي بما أننا قد نفخ فينا من روحه.