«..على هذا النّحو وحدَه يجبُ أن يكون الشّأن لدى الفيلسوف. فلا حقّ لنا في أنْ نكون مُتَحيّزين في أيّ مجال: لا حقَّ لنا في أن نخطئ جزئيّا، وفي أن نصيب جزئيّا. ذلك أنّ أفكارنا تنبثق منّا بنفس الضّرورة الّتي تُثْمِر بها الأشجار: قِيمُنا، وما نقوله من «نعم» و«لا» و«متى» و«إذا» ينشأ منّا، وهي كلّها متقاربة ومُرتبطٌ بعضُها ببعض: إنّها شهاداتٌ على إرادةٍ واحدة، وصحّةٍ واحدة، وأرضٍ واحدة، وشمسٍ واحدة. أمّا أنْ تُعجبـكم هذه الثّمار، الّتي هي ثمارُنا، فهذه مسألةٌ أخرى. - ولكنْ ما أهميّة ذلك بالنّسبة للأشجار؟ ما أهميّة ذلك بالنّسبة لَنا نحن الفلاسفة؟»[1]
« القَصص القرآني ليسَ مجرّد حكاية أخبار، بل هو بيان وبرهان: وسيلةٌ في الإقناع تدعو للاحتكام إلى العقل بعيداً عن أساليب اللّاعقل»[2]
فاتحة:
يَعترض محمد العمري على استدلال الجابري على "لا برهانية الفكر العربي من خلال أعمال اختارت عن وعي مجال عملها وحددت اختصاصها المتمثل في البلاغة"[3] . وقد أراد لاعتراضه أن يكون تقويميّا، يصحّح غلط الجابري ويضع الأمور في نصابها. فالأعمال البلاغيّة ينبغي، حسب ما يُفْهَم من اعتراضه، أن تُناقش في إطار البلاغة، أو ينبغي أن تُحترَم خصوصيتُها على الأقلّ فلا يُنَاقَش البلاغيّون باعتبارهم مناطقة أو فلاسفة أو يطالبون بعمل هؤلاء. لكنَّه بَدل أن يوفّر لاعتراضه صياغة تجعله قابلا للفهم أَوردَه مُلتبسا وفي غاية التّخليط؛ وبدل تفسيره وتقديم سنده في الاعتراض بإظهار ما يدلّ على أنّهم عوملوا معاملة الفلاسفة وطولبوا بعملهم وتوضيح كيف يُمْنَع تناول أعمالهم من زاوية فلسفيّة ومن زوايا تخصّصات أخرى، انتقل إلى موقع المدّعي –وهو ما ليس ممنوعا في ذاته- فأتى بآراء لا تَثْبُت؛ وبدل أن يلتزم بعضَ النّزاهة ويسلك طريق "العلم" الّذي يريد الانتساب إليه، فينظر إلى ما اقتطفه من عمل الجابري في ضوء سياقه المقالي والمقامي ومنطلقاته ومقاصده، نجده لا يكتفي بعزله وإغراقه في مسبقاته الخاصّة، بل يصل إلى حدّ تزييفه وتشويهه. لمناقشة ذلك نبتدئ بتقديم ما قاله في اعتراضه الإجمالي، ثمّ نوزّع فقرات مقالتنا على عنوانين أساسيّين، الأوّل نُخصّصه لصيغة الاعتراض والثّاني لمضمونه؛ وفي كلٍّ تفصيل. أمّا ما اعتبرَه اعتراضا مبنيا على "النظر إلى الأجزاء والفروق والممهدات"، فسنجعله موضوعَ مقالٍ قادم.
الملحق التّوضيحي:
ينهي العمري الفصل الرّابع من القسم الأوّل من كتاب "البلاغة العربية، أصولها وامتداداتها" بالقول »إن عمل ابن وهب أقرب إلى نظرية معرفية، في حين أن عمل الجاحظ يندرج ضمن النظرية البلاغية: بلاغة الخطابة. وهذا يقتضي منا توضيحا بصدد مفهوم البيان والفكر البياني عند الأستاذ عابد الجابري، حيث وجدنا مجموعة من البلاغيين يناقشون باعتبارهم مناطقة أو فلاسفة، أو يطالبون بعمل هؤلاء [4] «؛ ثم يضع، في الصّفحة الموالية، ملحقا للتوضيح، يستهله بما يلي:
»يقول الأستاذ محمد عابد الجابري:
"انقسمت الأبحاث البيانية منذ نشأتها إلى اليوم إلى قسمين: قسم يعتني بـ"قوانين تفسير الخطاب" وقسم يهتم بـ "شروط إنتاج الخطاب".." .
"إن هذا الاهتمام بنظام الخطاب على حساب نظام العقل قد ترتب عنه جملة أمور: الانشغال والاهتمام بتجنب التنافر بين الكلمات على حساب الاهتمام بتجنب التناقض بين الأفكار"[5]. "