كتابٌ صدرت طبعته الثانية في العام 1999 عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، من تأليف المفكر المغربي محمد عابد الجابري، والذي انكب فيه المؤلف على المعالجة الفكرية لأبرز القضايا والإشكالات ذات الطبيعة الفكرية والثقافية التي تعتمل بالوطن العربي (ثنائية الأصالة والمعاصرة، التطرف والموقف العقلاني في الفكر العربي الإسلامي، الاختراق الثقافي... إلخ)، في سياق عالمي وإقليمي موسوم بتعاظم الاهتمامات المتصلة بالمسألة الثقافية وقضايا الهوية، والتي سحبت البساط من تحت أرجل المسألة الاجتماعية في ضوء انحسار جاذبية الشعارات النظرية والتعبيرات الإيديولوجية المجسمة لها (قضايا الصراع الطبقي، العدالة التوزيعية... إلخ)، وهي الظاهرة التي يجري التعبير عنها، مثلما لاحظ الجابري بحق، بعناوين من قبيل "عودة المكبوت" و"عودة المقدس" في الغرب، و"الصحوة الإسلامية" وما يناظرها من شعارات تعبوية في العالم العربي والإسلامي:
جدلية التراث والحداثة
إن دفاع صاحب مشروع "نقد العقل العربي" عن توطين الحداثة واستنباتها في التربة العربية، لا يعني البتة بأنه من دعاة القطيعة الجذرية مع التراث. ومن هنا فإن الانتقال إلى الحداثة يستلزم إعادة قراءة تراثنا الحضاري العربي والإسلامي قراءةً نقديةً وتاريخيةً، كمُدخل لتأسيس حداثة عربية أصيلة، من طريق استثمار الجوانب العقلانية في ذلك التراث، وتحريره من رواسب الغلو والتزمت المثبطة لإرادة النهوض والتجدد. وبتعبير الجابري نفسه، فإن التحرر من التراث (بالمعنى السابق) هو السبيل الأنجع للتحرر من الآخَر، ذلك أن التعامل النقدي (النقد الذي يفيد تمييز الجيد من الرديء لا النقض والهدم) مع التراث قمينٌ بالنظر الموضوعي في الحضارة الغربية المعاصرة، بالأخذ من ثمراتها اليانعة ومَواطن قوتها، ونبذ مثالبها وقشورها المتعفنة، وهو الموقف الفكري الذي يعبر عنه الكاتب ب "العقلانية النقدية"، التي تنصرف إلى إعمال المنهج النقدي العقلاني في مقاربة تراثنا الخاص والآخَر (=الغرب) على السواء.