تعتبر الذاكرة الثقافية شرطا أساسيا من شروط قيام الحضارة، ومن أسس نشوء وتبلور الجماعات البشرية عبر التاريخ. بحيث يمكن القول عموما بأنه لا حضارة ولا هوية حضارية بدون ذاكرة ثقافية.
سأحاول في هذه الورقة أن أقف عند بعض جوانب الارتباط بين السينما المغربية والذاكرة الثقافية الوطنية. بأي شكل تصوغ السينما بوصفها واحدة من أهم الفنون الحديثة، كيف تصوغ علاقاتها بهذه الذاكرة الثقافية الشاملة؟ و كيف يؤسس الفن السابع، ضمن سياق خاص هو هنا السياق المغربي، تصورات ثقافية شاملة تجدد البناءات العريقة للذاكرة المغربية؟
1 - الذاكرة الثقافية .. محاولة للتعريف:
يعتبر الباحث و الأستاذ الجامعي الألماني يان أسمان (1938 – 4202) الذي كان عالم حفريات متخصصا في التراث المصري القديم أهم من تصدى لهذا المفهوم بالشرح و التحليل حيث خصص له مؤلفا مستقلا بعنوان " (2)
يميز أسمان بين أربعة أنواع من الذاكرة هي على العموم الذاكرة المحاكاتية وذاكرة الأشياء والذاكرة التواصلية، وبعد أن يعرف كل واحدة من هذه الذاكرات، يخلص إلى أن الذاكرة الثقافية تتميز بشكل خاص بكونها ترتبط أساسا بالمعنى. يقصد بذلك أنها تتجاوز المستوى النفعي المباشر للذاكرات الثلاث السابقة لترقى إلى مستوى أكبر يرتبط ببناء وترسيخ المعنى. هكذا عندما تأخذ الأفعال و السلوكات المحاكاتية وضعية " طقوس" rites أي عندما تكتسب معنى يتجاوز وظيفتها النفعية في الحياة اليومية، فإننا نخرج حينئذ من الميدان المرتبط بالفعل (أو العمل) و ندخل في ميدان آخر أرحب هو ميدان الذاكرة الثقافية. وذلك لأن الطقوس هي عبارة عن نمط لنقل ولتخليد المعنى الثقافي. و نفس الشيء بالنسبة للأشياء عندما لا تكتفي بأن تظل مجرد أشياء نافعة، فهي تشحن بالمعنى: رموز، أيقونات، تمثلات من قبيل شواهد القبور، قبور، أضرحة، أوثان، إلخ... هي جميعها تتجاوز أفق ذاكرة الأشياء، من خلال جعل المؤشر الزمني و الهوياتي المستتر، جعله ظاهرا و واضحا للعيان". والأمثلة على ذلك كثيرة بدءا من الميزان الذي يرمز للعدالة، والمنجل الذي يرمز لطبقة الفلاحين، والحمامة التي ترمز للسلام وكذلك الصفيحة والخاتم.. هذا مع العلم أن لكل حضارة رموزها الخاصة بها التي تشكل عمقها و ثوابتها الثقافية العميقة. (3)
انطلاقا من هذه المقارنات و التمايزات يتضح إذن بشكل جلي أن الذاكرة الثقافية حسب أسمان تستقر على نقاط ثابتة في الماضي. و حتى في ذلك، لا يمكن الحفاظ على الماضي على هذا النحو، ولكنه مجمد في اشكال رمزية تعلق بها الذاكرة. من ذلك يعطي أسمان على سبيل المثال قصص الأنبياء، و قصص الخروج، و عبور الصحراء، و الاستقرار في الأرض الموعودة، و المنفى، و هي هذه الأشكال الذاكرية التي يتم إحياؤها احتفاليا خلال الأعياد، والتي تضيء هذا الوضع أو ذاك في الوقت الحاضر. و يعتبر أن " الأساطير هي أيضًا أشكال و نماذج من صلب الذاكرة: هنا يصبح التمييز بين الأسطورة والتاريخ تمييزا عفا عليه الزمن. بالنسبة للذاكرة الثقافية، ليس التاريخ الواقعي هو المهم، ولكن التاريخ كما نتذكره. ويمكن القول أيضًا إن الذاكرة الثقافية تحول التاريخ الواقعي إلى موضوع للتذكر، وبهذه الوسيلة، تحوله إلى أسطورة. الأسطورة هي قصة تأسيسية، قصة يُطلب منها أن تضيء الحاضر في ضوء أصوله. (...) في الذاكرة، يصبح التاريخ أسطورة. فهو لا يصبح غير واقعي ؛ بل على العكس من ذلك، عندئذ فقط تصبح حقيقة، أي أنها تأخذ قوة معيارية وتكوينية دائمة ". (4)