tunisie-religionعرف الوعي الديني التونسي تصدّعا واضطرابا خطيرين، جراء ما ألمّ به إبّان عهد بن علي وما خلّفه أيضا عهد سلفه الحبيب بورقيبة. إذ فُرضت حالةٌ عُصابيةٌ على أذهان الناس طيلة عقود، اشتدّت حدّتها حتى أفرزت شرائح دينية انتهازية وفكرا دينيا خاملا. وبالقدر الذي تجلّى عبره الاضطراب في مُدّعي الحداثة والعقلانية، ممن جلبتهم المغانم، تجلّى أيضا في فقهاء السلطان، ممن أغراهم التهافت على بقايا مؤسّسات دينية متداعية، حتى تحوّل الفكر الديني إلى ضرب من التزلّف الموبوء.
فقد سيَّست السلطة، في عهد بن علي، حقلَ الفكر الديني بجميع مقارباته، التاريخية والشرعية والاجتماعية، إلى أن بات أي اشتغال فكري أو علمي بالدين -ما لم يعلن صاحبه ولاءه التام لصَنميّة الزعامة، ومقاومة "الخوانجية"- مغضوبا عليه وفي عداد التّهمة والشبهة. وقد دأبت السلطة على استقطاب الكتّاب والشعراء والفنّانين والمثقّفين العائمين، الذي لا هُم إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ليس لتكريمهم بل لجرّهم معها إلى المستنقع الآسن، حتى تكتسب بهم مسحة مشروعية. أفرز ذلك الاستقطاب مفكّرين في الإسلاميات وشيوخا في الشرعيات، ما كان ليغْدو لهم ذكر أو ليعْلو لهم كعب لولا الحصار على الفكر الديني الخارجي والترصّد بالمنتوج الداخلي.

انفاس نت لم تشهد البلدان العربية، على مدى تاريخها المعاصر، تعاملا ديمقراطيا في تعاطيها مع الشأن الديني، وبالمثل لم تُطوَّر مقاربة علمية في معالجة الظواهر الدينية. ولم تشذ تونس عن ذلك السياق العام رغم المنزع الحداثي المبكّر للدولة منذ مطلع الاستقلال. وهو ما جعل البلاد بعيدة عن مفهوم "الدين المدني"، وأبقى تعاطي السلطة مع الدين، بشتى أبعاده المعرفية والعلمية والتربوية، مفتقدا لرؤية حداثية حقيقية، ودون مطمح الريادة الحضارية التي تطلّعت إليها تونس بين البلدان العربية.
ولعل ذلك التردّي متأت بالأساس مما ساد من إصرار، من قبل جهاز السلطة، على ادّعاء الوصاية على تمثيل الوعي الديني الصائب واحتكار التأويلات الدينية المشروعة. وهو في الحقيقة تقليد متوارث في الاستحواذ على الثروة الدينية الرمزية، مارسته في البداية أُسَر أرستقراطية، ثم خلفتها فيه السلطة -خلال عهدي بورقيبة وبن علي-، كلّ ذلك في غياب تطوير رؤية عقلانية رشيدة. فغالبا ما روّجت السلطة، التي سعت أن تكون عصرية وعلمانية وإن بشكل غائم، رؤيةً أحاديةً للدين، سندها في ذلك خطاب ديني، ظاهره حداثي وباطنه سلفي اتّباعي، تجلى في الخطب الجُمُعية للمساجد، التي استندت إلى مدوّنات فقهية بالية. الأمر الذي جعل عناصر التعاطي مع الحقل الديني، طيلة العقود الماضية، تتخلّص في تعامل عُصابي متذبذب، افتقد إلى أبسط درجات الواقعية والرُّشد والحداثة.

أنفاس نتعزيزى القارئ ان المقال( وما قد يتبعه من مقالات) الذى تحت بصرك الان وظيفته كشف الغطاء عما هو مستور وتنوير مالم يكن فى دائرة النور ومحاولة الغوص فى اعماق الحقيقة وعدم الاكتفاء بقشورها ومظهرها الخلاب.
وهذا المقال يهدف فقط الى التحقيق العلمى ولا يخضع لاى تسلط فكرى او ايديولوجية مسبقة تسيطر عليه....
وهو يمكن ادراجه تحت مسمى مقال نقدى للتاريخ العربى يحاول زحزحة المعطيات المسلم بها وفكفكة ما تم تركيبه منذ قرون طويلة من يقينيات ومسلمات واعادة تركيب وقائع التاريخ وفقا لمنطق عصرى مقبول.
ومقال من هذا النوع لا يمكن ان يكون هدفه المصالحة بين التراث والمعاصرة او بين الاتباع والابتداع...
ويجب ان نعلم ان التاريخ الانسانى(التراث)الفاعل الرئيسى لاحداثه بشر لهم فضائلهم وايضا نز واتهم واطماعهم بدرجات متفاوتةلانهم ليسوا ملائكة كما ان فصول التاريخ الانسانى تجرى فى الارض وليس السماء.
ولكننا للاسف وضعنا هالة من القداسة على التراث-يقصد بكلمةالتراث سنة الذين خلوا من قبل بكل ما يندرج فيه من مفاهيم وقيم ومعتقدات وتقاليد وسلوك واعراف....الخ- وعلى اشخاصه وعلى أحداثه دون أن يكون هناك داع ولا معنى..

أنفاس نتتقديم توضيحي
سبق، في مقالة سابقة، أن قمت بالرد ومناقشة ما جاء في مقالة لوليد القبيسي ( أو الكبيسي al kobeissi ) العراقي الأصل، القاطن بالنرويج، في أسبوعية courrier internationnal، يوم الجمعة، 17 ديسمبر، 2010. وبدا لي من المهم جدا، لتقريب الرد والنقاش، عرض تفاصيل ما ورد في المقالة حتى يتبين القارئ، المهتم بقضايا العربية، جدوى الحذر من مثل هذه المنشورات.
العربية لا تسعف إلا في الترحم على الأموات
يرى الكبيسي أن العالم العربي يعاني من التراجع البطيء للغة العربية فنحن لم ننجح، في رأيه، في تجديد لغتنا، وهي رمز هويتنا، وضامن وجودنا فمنذ العصر الوسيط، أحطناها بجدار برلين، ولم نهدم هذا الجدار إلى اليوم وما أنتجه اللسانيون من قواميس، يمثل، في أغلبه، حارسا لمعبدٍ، اللغة العربية فيه، لا تسعف إلا في ترتيل الشعائر، والترحم على الأموات.
2. أسباب تعقد الإصلاح اللغوي
أصبح كل إصلاح معقد، في رأيه، بسبب الرابط القوي بين اللغة، والثقافة العربية المهيمنة التي تقوم على ثلاثة ركائز: القومية العربية، والإسلام، واللغة، بحيث إذا اختفى واحد من هذه الركائز انهارت ثقافتنا. ولوصف ثلاثية الأسس في الثقافة العربية، يستعير المصطلح المسيحي، ألا وهو، الثالوث المقدس (Sainte Trinité)، وذلك، كما يقول، لأن الأمر يتعلق، فعلا، بوحدة من ثلاثة مكونات، ويقصد بذلك، تشبيه اللغة العربية، والقومية، والإسلام، في التوحد، بتوحد الأب، والابن، والروح القُدس، في الثقافة الدينية المسيحية. وإذا كان التوحد الثلاثي، يبين، يحول دون عصرنة الإسلام، وتجديد الثقافة العربية، فإنه، هو نفسه، الذي يعوق إصلاح اللغة العربية، ذلك أن ارتباط الثقافة بالإسلام يجعل مس اللغة انتهاكا للمقدسات.

أنفاس نت - المغربمهما يكن من أمر القضايا والإشكالات التي تتخلل المصادر التقليدية القديمة فإنها تبقى في نهاية المطاف السند المرجعي الذي لا غنى عنه للمهتم التواق إلى بلورة تصور أولي، أو سبك فرضية معينة؛ كما أن محدودية وقصور قيمتها التاريخية لا تعني ضرورة الطعن في نسغها المنهجي وإقصاءها من حلبة البحث التاريخي، بل ينبغي الحفر والنبش في تجاويفها لاستبطان ما تختزنه من معطيات اقتصادية واجتماعية على قلتها مع تفادي السقوط في دوامة التأويل البعيد الذي يفضي إلى خلاصات مبتورة، واستنتاجات ناقصة.
مما لا جدال فيه أن الطفرة النوعية والكيفية التي يشهدها الغرب في صيرورة البحث التاريخي تمتح ميكانزماتها من التطور الهائل الذي اخترق نتوءات حقل العلوم الإنسانية، فتطورت تبعا لذلك مناهج البحث وأدوات العمل، وتنوعت المجلات المتخصصة، وتعددت التيارات والاتجاهات الفكرية والإيديولوجية حيث أضحى من الصعوبة بمكان احتواء سيولها الجارفة، والقبض على ناصية فروعها الدقيقة مما ساهم في إثراء قاعدة الخطاب التاريخي أفقيا وعموديا من خلال خلخلة واقتحام المؤرخ، سراديب فضاءات جديدة كالاهتمام بتاريخ الطقس، والموت، والأشجار، والحيوانات وغير ذلك من الاهتمامات التي تصب برمتها في إطار تنويع وتعميق أساسيات المعرفة حول الإنسان والمجتمع الخ. بل يمكن الجزم بأن تضاريس الذاكرة الغربية بمشاهدتها اليومية، وترسباتها الشعورية واللاشعورية قتلت بحثا ودرسا وتأويلا، الأمر الذي انبلج عنه في نهاية المطاف "أزمة في الموضوع" حاول تخفيف حدتها، وتلطيف مخاضها بتوجيه الاهتمام نحو دراسة تاريخ الشعوب غير المكتوب والذي لم يكتب بعد، وهي عملية تستمد مرجعيتها الفكرية من الاستراتيجية البعيدة المدى التي توخت بعض المدارس التاريخية –مدرسة الحوليات- بلورتها على أرض الواقع.

أركون"إنني في كل مرة يدنو مني اليأس
لا البث أن أحس يداً حنوناً تربت كتفي
وأخري تملأ سراجي زيت
وإذا بنوره يتجدد ويتألق ويتمدد
وإذا بي أبصر اثار أقدام
هنا وهناك
فتستأنس روحي وتتجدد عزيمتي وتشتد
وأدرك أنني لست وحدي في الطريق!"
ميخائيل نعيمة
ما أشد تشوه وقُبح فهم أبناء أمتنا للحرية! وما أخبث التخلف الذي انفق رواد فكرنا الأنسني النبلاء أعمارهم في منازلته(1)! انه تنين عديد الرؤوس، كثير البراثن وحاد الأنياب! انه تنين عظيم جداً! انه تنين مزدوج مشترك من آخرية عربية/محلية لا تتورع عن تكريس اغتراب شعوبنا ثقافياً(2)، ومن آخرية غربية/عالمية تتحالف بدم بارد مع ميراثنا المُر، تنساب في أرضنا كأفعى، تستأصل بدربة ما ـ تبقى ـ في نفوسنا من مروءة وشرف! "يالذل قوم لايعرفون ما هو الشرف وما هو العار!"، مقولة رائعة للمفكر السوري أنطون سعادة(3)، وصف فيها بدقة خنوثة التخلف العربي.

anfasseورد هذا السؤال عنوانا لمقالة نشرت في أسبوعية courrier internationnal، العدد 137، ضمن خانة لسانيات، يوم الجمعة، 17 ديسمبر 2010، لوليد القبيسي، وهو من أصل عراقي، ويقطن بالنرويج منذ 1980. ونظرا لما يتضمنه المقال من مغالطات، ومجازفات غير ناضجة، وغير مسؤولة، ارتأينا الرد على عدد من متبنياته اللغوية الخاطئة. سنلخص بعضا من هذه التصورات، والاستدلالات، ثم نرد بمناقشة عامة.
تصورات الكاتب واستدلالاته: تلخيص
يرى هذا الكاتب أن اللغة العربية تعاني من التراجع، ولا تُسعف إلا في ترتيل الشعائر الدينية، والترحم على الأموات. والسبب، عنده، يعود إلى العلاقة الوثيقة بين اللغة، والثقافة العربية المهيمنة. فهذه الثقافة، يقول، تقوم على ثلاثة ركائز: القومية العربية، والإسلام، واللغة العربية. وما أن يُمس واحد من الأسس الثلاثة حتى تنهار الثقافة كاملة، وكل مس بأس منها يعد مسا بالمقدسات، وانتهاكا للحرمات.
ويذهب إلى أن هذه العلاقة سبب إعراض غير العرب عن العربية، ومثاله على ذلك أكراد العراق، ومسيحيو جنوب السودان، وأقباط مصر. ففي رأيه، قل اهتمام الأكراد بالعربية منذ 1990، واعتبر سودان الجنوب قرار الرئيس، سنة 1990، تعريب التعليم، واعتباره واجبا دينيا، سعيا إلى جعل العربية وسيلة للهيمنة الدينية؛ وأصبح الأقباط يستعملون اللهجة المصرية في منتديات الأنترنيت، رفضا لعلاقة الدين باللغة.
إن مسلمو أوروبا، يقول، ما كانوا ليتعلموا اللغات الأوروبية، لو كانت مرتبطة بالدين المسيحي. ثم، إن ثلثي المسلمين من غير العرب لا يتكلمون العربية، ومع ذلك، لم يتراجعوا عن الإسلام.

vladimirفي غمرة تنامي إدراك الواقع الإنساني "المتأزم/ البائس"، وشعور"بوجع افتقاد الغاية، والهناء الوجودي" ووعي بما قد يُنتج من أخطار مستقبلية على الإنسان والبشرية بسبب التوجه المادي الأحادي.. تولد، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، شعور بالحاجة إلى حوار بين المسيحية والإسلام. كان من مُنظريه الأُول: "فلاديمير سولوفيوف" في "سباحة عكس التيار السائد". فمن آفاق التنافس والتصادم (والذي يمثله حديثاً "صموئيل هنتنتجون")، إلي آفاق التحاور والتفاهم.. يُعد "سولوفيوف" من بين هؤلاء المستشرقين، كـ"إنكيتيل دوبيرون"، و"لويس ماسينيون"، و"ألكسي جورافسكي"، و"روبرت أولسن"، و"جي دي براون" وغيرهم الذين امتازوا برؤى تتسم بالإنصاف، والموضوعية.
كان ظهور الإسلام وانتشاره السريع في القرن السابع الميلادي مفاجأة كبري للكنائس النصرانية المختلفة التي هيمنت على شعوب منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط وما جاورها. ففي مدةٍ تقل عن مائة عام تمكن المسلمون من التوسع ونشر رايتهم علي جميع السواحل الشرقية، والجنوبية، والغربية، للبحر الأبيض المتوسط. وفي مدةٍ تزيد على المائة قليلاً بلغوا أعماق أوروبا وجنوب فرنسا. فأربعاً من بين خمس عواصم دينية لدى النصارى تحولت إلى حواضر إسلامية؛ وهن: بيت المقدس، والإسكندرية، وأنطاكية، والقسطنطينية! ولم يبق بأيديهم سوى الخامسة؛ روما.