إذا كانت مدينة آسفي قد تناولتها أمهات المصادر التاريخية من كتب التاريخ، الرحلات، التصوف، الدين، الاقتصاد، الجغرافيا... وورد اسمها في كتب من تأليف كتاب سمعوا عنها، مروا بها أو أقاموا فيها، فإننا اليوم نفتح نافذة على أرض عذراء، في بحث لم يطأه باحث من قبل، وموضوع غير مسبوق، من خلال المساءلة عن علاقة هذه المدينة بالبحر في ما كتبه روائيو آسفي عن مدينتهم، وفي النفس صور لمدن عشقناها من خلال الروايات والأفلام، لنتساءل كيف صور ابناء المدينة تلك العلاقة، وهو ما ستتناقله الأجيال القادمة إن كتب لهذه الروايات الخلود، مثلما نتناقل نحن ما كتبه ابن خلدون، ابن الخطيب، ليون الإفريقي، البكري، الإدريسي، ياقوت الحموي، ابن الزيات، ابن قنفذ، الحميري، والناصري وغيرهم ممن أرخوا لهذه المدينة، خاصة وأن الرواية أضحت ديوان العرب المعاصر الناقل لأيامهم، أخبارهم وأحوالهم... مبتعدين أشد ما يكون البعد عن اجترار ما قالته المصادر القديمة، ودون إغراق في التنظير والتعريفات المتداولة عن البحر والمدينة والعلاقة بينهما، لتكون الدراسة ميدانيةً تغوص في الروايات التي تناولت آسفي إما في إشارات عابرة، أو جعلت المدينة مسرحا لأحداثها، ولن يهمُّنا منها في هذه الدراسة إلا النصوص التي رصد فيها مخيال أصحابها تفاعل المدينة بالبحر، منذ أول رواية آسفية؛ رواية "الهاربة" لمحمد سعيد الرجراجي[1] إلى اليوم، مقتصرين على عدد من الروايات - لأبناء المدينة منشأ أو مسكنا- تداخلت فيها صور متناقضة لعلاقة آسفي بالبحر. وكل نسج سردي يمتزج فيه التاريخي بالأسطوري، والواقعي بالخيالي، والقديم بالحديث، الحقيقي بالمزيف، الموضوعي بالذاتي الانطباعي... ولا كتابة بيضاء بريئة، وكل كتابة تورط جديد، سواء عادت بالقارئ إلى عوالم غابرة في التاريخ أو صورت الآني اللحظي...

حينما تلتقي خبرة الباحث بدُربة الإعلامي وروح المبدع العاشق للثقافة المغربية في بُعدها المتجذر، تمنح القارئ نصوصا جديدة في لغتها وموضوعها، وهو ما تجود به كتابات د/ عمر أمرير الذي راكم تجربة من البحث الأكاديمي والإعلامي والثقافي.

بعد كتابه" العصاميون السوسيون في الدار البيضاء"، والذي اختار التنقيب في سير عشرات الأسماء السوسية التي  انتقلت إلى الدار البيضاء وأصبحت ، بعد رحلة عصامية، من أقطاب الاقتصاد المغربي، حوّلها عمر أمرير إلى حكايات توثق الذاكرة التي لا يلتفت إليها المؤرخون، غير أنه في كتابه "قيمة الثقة عند المغاربة من خلال ذاكرة الحاج الحسن أمزيل"(مطبعة سومكرام- الدار البيضاء  الطبعة الأولى 2021- 348 صفحة من الحجم الكبير) يتقدّمُ خطوة أخرى في كتابة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي انطلاقا من ذاكرة في واحدة من القيم العليا التي انبنت عليها الإنسانية وهي الثقة وروافدها المتصلة بالصدق والأمل والطموح.

قص علينا الناقد جابر عصفور في إحدى مقالاته عن صديق عمره الشاعر أمل دنقل(1940/1983) اللحظات الأخيرة في حياته بالمستشفى وفي الحجرة عينها التي حملت عنوانا لآخر ديوان شعري يفيض بالمرارة والألم والأسى "أوراق الغرفة 8" عام 1983 ،لحظات أخيرة عاشها جابر عصفور وعبد الرحمن الأبنودي وزوجته عبلة الرويني ، حيث حرص دنقل على وصية غريبة لكنها مألوفة بالنسبة لدنقل ولصديقيه ،لقد أوصاهما بدفنه في قبر أبيه في قريته في الجنوب ودفع لهما ثمن التذاكر بالطائرة لمرافقة جثمانه حتى إذا رفضا أخذ المبلغ أصر على عدم حضورهما ومادام الصديقان لا يستطيعان رفض طلب دنقل فقد قبلا على مضض فهما يعرفان العناد والإصرار عند دنقل، الشاعر، الساخط ، الثائر، غير المتصالح الذي جعل من الرصيف منبرا سياسيا عربيا اهتز لكلماته ولإيقاعاته الشعرية الساخطة التي أرادت غضبا عربيا يهزم الخوف فينا والاستكانة ويجتث كل الطفيليات التي تهين بقية الألوهة في الإنسان وهو يعرج في كفاحه وصراعه ضد الإقطاع والاستعمار والرجعية والتخلف إلى أعلى درجات الإنسانية حيث تفيض حدبا على الإنسان ، هذا الكائن المكرم الذي دمرت قوى الشر إنسانيته وجعلته رهين متطلبات الحياة البسيطة والتي هي ذاتها متطلبات الحيوان.

من الروائيين من يقضي العمر كتابةً، من دون أن يقع على "مشروع العمر". ومنهم من يقع على مشروعه بعد أن يكون قد قطع مسافة أطول فأطول على طريق الكتابة. أما المبكرون فهم أقل فأقل، وأحسب أن شعيب حليفي واحد من هؤلاء. فقد تلامح مشروعه منذ روايته الأولى "مساء الشوق" (1992) وهو في الثامنة والعشرين، وذلك على مستوى بناء الشخصية بخاصة، واللعبة الفنية بعامة، وهو المستوى الذي لن يفتأ يغتني وينضج من رواية إلى رواية، وصولاً إلى "لا تنس ما تقول" (نادي القلم). أما إسفار المشروع فقد جاء منذ رواية حليفي الثانية "زمن الشاوية" (1994). وها هو في "لا تنس ما تقول" يتبدى مُدِلاً بعلاماته الكبرى، وأولها الحفر في التاريخ الأمازيغي في المغرب، واستعادة الضائع والشفوي والمخفي من هذا التاريخ، مصححاً عوج التاريخ الرسمي، ومكملاً لنقصانه. وإذا بالرواية - ضمن منظومة روايات الكاتب – صياغة بديعة، وخاصة للهوية السردية الأمازيغية في المغرب.

إن التشكيل وإعادة الصياغة للرؤيا الشعرية الثاقبة لا يزال لغزا لم تستطع فك طلاسمه لا نظريات النقد الكلاسيكي، ولا نظريات الشعرية الحديثة بمختلف مدارسها واتجاهاتها منذ أن لسعت عقرب الإبداع أحفاد آدم وحواء إلى ما ستتمخض عنه أوجاع الحاملات للجينات من المضغ والعلقات فيما سيأتي من الأزمنة .
إن تشكيل الرؤى الشعرية الحالمة بتحقيق التوازن المفقود في عصر متسارع الخطى، وإعادة صياغتها صياغة فنية قادرة على خلق الدهشة المبتغاة لا بد أن ينبثق من بؤرة الذات الشاعرة. غير أن هذه الذات بدروها محكومة بظروف قد لا تسعفها دائما في القبض على الجوهر المنشود. ومن ثم لا مناص من الاعتراف مسبقا بأن الغوص فيما يؤرق هذه الذات، يمكن اعتباره منطلق الشرارة الأولى لكي يستوي البوح الشعري على الصورة الأبهى والأصفى من كل أدران الواقع المحيطة بها.

تبدو التجربة الشعرية لمليكة العاصمي في هذا الديوان -١- محاولة لتحقيق حرية الذات المعتقلة لردح من الزمن في سجن الرجل، وتصميما على نزع رداء الظلم والاضطهاد والاستغلال الذي عانت منه المرأة المغربية طوال عقود كانت فيها ترسف في أغلال مجتمع أبيسي "بطرياركي" محافظ ، لم يكن ينظر إليها إلا كجسد، وظيفته إشباع رغبات الرجل/السيد، وذات تابعة لرغائبه ونزواته، وعورته التي يجب أن تظل مستورة.
تقول في كلمة تقديمها للجزء الأول من أعمالها الشعرية :
"علينا أن نستحضر مجتمع أواسط الستينيات، ونتخيل صوتا ينبعث ممزقا الغلاف الاجتماعي، والطوق المضروب على المرأة، على حضورها وصوتها ومشاعرها وأفكارها ومواقفها، إذ المرأة سر من أسرار المجتمع وخصوصيته، وهي موضوع خطاياه وأخطائه وانحرافاته وجرائمه، عورته التي يعمل على سترها، ووضع الحجب والمغاليق والرقابة عليها، على صورتها وعلى ما تفعله أو تقوله أو تحسه أو تفكر به، وما يدور في خلدها، فيحرص على إخفائها وتسييجها ومنعها من الاتصال كي لا تتكلم أو تعبر أو تكشف المستورات" -٢-

ارتبك المؤرخون وكان عليهم الانتظار طويلا لوصف ما جرى في صيف 1894، لكن امرأة اسمها حادة الزيدية/خربوشة في ربيعها الثاني والعشرين، كلُّ زادُها من الثقافة، محفوظ الذاكرة الشفوي مما حفظته بالمسيد، وذخيرة من الأذكار المتداخلة مع أمثال العامة والحكايات والجروح و نهر من خيال لا محدود. لا تعرف القراءة أو الكتابة، ولم تقرأ  أو تسمع أو تحفظ أشعار العرب وأيامهم في الجاهلية، ولا علم لها  من يكون المتنبي أو المعري أو شعراء بغداد ودمشق والقاهرة ومراكش وفاس، وتجهل من يكون ابن خلدون أو أبو القاسم الزياني أو محمد أكنسوس أو أحمد بن خالد الناصري، ولا تعرف من أسماء العلماء والفقهاء إلا فقيه الدوار المغمور وأسماء أولياء عبدة ودكالة والشاوية. بل تجهل جهلا تامّا من تكون السيدة الحرة أو  زينب النفزاوية أو خناتة بنت بكّار. إنها، فقط،  امرأة من عالم البادية السفلي، معزولة عن العواصم والصالونات وعوالم المعارف العليا والخاصة التي تحفل بها المقررات وأحاديث النخبة.

شاءت الأقدار أن تفل شمس نوال السعداوي  الكاتبة والناشطة المهتمة بشؤون المرأة العربية مع إشراقة شمس ربيع 2021 بعد 90 سنة من العطاء أسست خلالها عدة جمعيات للدفاع عن قضايا المرأة منها (جمعية تضامن المرأة العربية والمؤسسة العربية لحقوق الإنسان). لتترجل عن صهوة النضال مثقلة بالجوائز والدرجات الفخرية  أهمها ( جائزة الشمال والجنوب  من مجلس أوربا وجائزة إينانا الدولية من بلجيكا وجائزة شون مأكبرايد للسلام من المكتب الدولي للسلام بسويسرا..... )
والأكيد  أن  ما سيبقى خالدا هو ما فاض من أناملها وفكرها والذي جمعته في أزيد من أربعين مؤلفا  ومئات الدراسات والمقالات والحوارات  ستبقى مراجع لكل من يقترب من موضوع المرأة، وضمن هذا الكم الهائل تتلألأ إحدى عشرة نجمة (رواية)  لا تبتعد كثيرا عن القضية التي ظلت تشغل نوال طيلة حياتها وهذه الروايات هي: