لعلني أشعر بسعادة تأمل الموجودات الجميلة من حولي، غير أنه، ولأنني أحس بمقابل امتلاء النفس بسعادة الحياة، أشعر بحزن فقدان تلك الحياة (...)
سيستمر العالم في مغامرته دون أن نعرف إن كانت نحو مصير الزوال أو الميلاد المتجدد،
وأنا أشعر بالأسى لأنه لا يمكنني معرفة ما الذي ستفضي إليه الأزمات الهائلة التي تتعرض لها الإنسانية، وأخاف بأن تصير إلى مرحلة تراجعية طويلة، بقدر معرفتي بأن اللاّمتوقع يمكنه تحويل كل شيء إلى الأفضل كما إلى الأسوأ .
بالفعل فأنا لا أعرف حقيقة ً لماذا صرت شخصا معمّرا وبلغت المائة سنة. يمكنني على الأقل وضع فرضيتين وتقديم مسألة يقينية .
المؤكد أنني خلال السنوات الأخيرة كنت أفضل، وبامتياز- مع بعض المبالغة الضرورية- التغذية الصحية ، وكلما أمكن من أصل طبيعي، واتبعت نظاما غذائيا متوسطيا(نسبة لمجال البحر المتوسط) منذ طفولتي، أساسه زيت الزيتون، وكنت أتجنب منتوجات الفلاحة ذات المنشأ المُصنّع، كما قمت بالحد من شربي للكحول(...) ولكنني لم أمارس رياضة معينة، عدا نشاطا كثيفا في ركوب الدراجة الهوائية حتى سن الخامسة والعشرين، والمشي طيلة حياتي . أولى فرضياتي ترتبط بنوع من الصمود، والقدرة على التأقلم مع المحن.
لقد قاومت، وأنا جنين في بطن أمي، المواد المجهِضة التي تناولتها بعدما أصابها مرض في القلب، وصارت ممنوعة طبيا من الإنجاب .

من يُجير الباحثين من ادّعاءاتِ المُفترين؟
تُعدّ السّرقة الأدبّية، والسّطو العِلمي والفكري ظاهرة ثقافية وأكاديمية بامتياز، بحيث تَعكسُ أزمةً أخلاقيّةً عميقةً تتّصل بانهيار قيم النّزاهة والصّدق والأمانة، وتَعِدُ بإفلاسها. في هذا السياق، أَجِدُني مُنسجما مع ما ذهبت إليه الباحثة العراقية "نادية هناوي" في مقال صحفي نشرته بإحدى المواقع الإلكترونية، بل أُنوّه بِشدّة بدعوتها "المعنيين بالثقافة عامة والأدب والنقد خاصة الحرص على نشر الزاد المعرفي العلمي الأصيل، وأن يحاربوا انتهاك الملكيات الفكرية عبر اعتمادهم أنظمة وبرامج خاصة في كشف الانتهاك والتشابه" (الكلام للباحثة). لكن، "هناوي" أغفلتْ أو تَغافَلتْ عن مبدأ مُهمٍ في هذا الباب، ويتعلق الأمر بالتثبُّتِ، وبأن تكون الحجة بقوة الدعوى. ألم تَذكُر الباحثة المَعنيّة في نهاية مقالها أنّها تعرف برامج كاشفة؟ ما الذي يمنعها من استخدامها لِتُثبت صِحّةَ مَزاعمها، وتصلب عُود أدلّتها، التي بَدَتْ للجميع ضعيفة؟ هذا إذا تضمن مقالها، فعليا، حُججًا وأدلةً، وهو ما سنُعرّيهِ في هذا المقال.

  رأيتُ تَجاذُبات كثيرة وتبادل اتّهامات بين مُتنازعين في مواضيع تخُصّ السّرقة الأدبيّة والعلميّة، والسّطو العِلمي والفكري .. الخ. لكن، وللحقيقة، كُلّها كانت تبدو اتهامات مشروعة، خاصة وأن المُشتكي يُعَضّدُ مَزاعمه بأدلّة دامغة، مُوَثّقة، جَليّة للعيان. أدلة لا يجدُ "المُنتحلُ" أمامها سوى الصّمت أو "الاعتراف" بالرذيلة الأخلاقية. على هذا النحو وجدتُ نفسي في مرمى الاتهام بما أسمته الباحثة "نادية هناوي" "سطوا" و"اعتياشا" على أفكارها.

إنّ المتأمل في تجربة الباحثة "هناوي" يُدرك بسرعة نُزُوعها المتكرّر نحو اتّهام الجميع بالسرقة والسطو. فما إن يُدوّن المرءُ اسمها في محركات البحث مُرفقاً بكلمات مثل "سرقة"، "سطو"، أو "اعتياش"، حتى يُفاجأ بِفيْضٍ من المقالات التي تُوجِّهُ من خلالها أصابع الاتهام إلى كل باحث، سواءٌ أ كان واعدًا أم مكرّسًا، بالسّطو على مباحث عديدة تتصل ب: النقد الاجتماعي، ونظرية الأجناس الأدبية، والسرديات، والنقدين القديم والحديث، بل تنسب إلى نفسها السّبق في كل هذه المباحث. والغريب في الأمر أن كلّها اتهامات دون حُجج قطْعية وبراهين جَليّة.

يتوزّع مقال الباحثة "نادية هناوي" إلى ثلاثة أقسام رئيسية: قسم عام يتناول ظاهرة الانتحال والاعتياش، وقسم يَضمُّ آراءً نقديّةً، وقِسم أخير يَغلُب عليه طابع اللّوم والعِتاب. ويبدو أن هذا الأخير يُشكّل، بالنسبة إلى الباحثة، جوهر المقال، حيث تعرِضُ من خلاله "نادية هناوي"، مَزاعمها حول مسألة الانتحال، مزاعم يُفترض أن تَستند إلى أدلّة تُنهي الجَدل حول الموضوع، تَقطع دابِر القول فيه.

 التاريخ مرآة للعصر وصورة للذات عند واسيني الأعرج:

        يشكل النظر إلى (الذات) باعتبارها صورة تطابق (الأنا)  محورا رئيسيا في رواية واسيني الأعرج "كتاب الأمير"،  التي تتمحور حول شخصية "الأمير عبد القادر الجزائري" التاريخية في لحظة مواجهة الآخر (المستعمر).

وتتساءل الناقدة "ماجدة حمود" بصدد مناقشتها هذا العمل الروائي:  "كيف تكون الشخصية التاريخية ابنة زمانها وأفكارها من دون أن نعزلها عن عصرنا،  فتبدو مستقلة من دون أن تعاني غربة عن همومنا ؟[1]...

من هذا المنطلق يجد المتلقي نفسه متسائلا: هل يحق للروائي تجاهل كل ما يشكل خصوصية الشخصية ؟ وهل يحق له انتزاعها من سياقها التاريخي والثقافي كي يرسمها وفق صورة تسعى إلى إرضاء رغباته فيخضعها لأفكاره وزمنه ؟

ترى هل يحق له إعادة تشكيل شخصية عبد القادر الجزائري باعتبارها نظيرا (لِلْأَنا / الذات) في صورة تبدو للمتلقي غريبة عن فضائها الخاص؛ أي عن كل ما يمنحها تميزا وهوية ؟

وهل إلغاء الصراع الفكري القائم بين الأنا و الآخر المستعمر في الرواية التاريخية يمنحها مصداقية ؟

لماذا اختفى الحوار مع الآخر المخالف للأمير؟ ولماذا سلط الروائي الضوء على أصدقاء عبد القادر الجزائري من الفرنسيين ؟

لابد أن يتساءل المتلقي مجددا بعد اطلاعه على هذا العمل الروائي مستغربا : "لماذا سيطر صوت واحد للآخر [ مسالم ومتسامح وخير...] وأُغفل الصوت المعتدي الذي أصر على البقاء في الجزائر مائة وثلاثين سنة ولم يخرج منها إلاّ بالثورة والدم ؟"[2].

 عتبة العنوان :

      يتكون عنوان الرواية من كلمتين تشكلان معنى منسجما [ الكتاب - الأمير]؛  فالأولى منه تحيل إلى المرجعية التراثية التي تجعل منها مؤشرا دلاليا؛ مثل : " كتاب البخلاء" للجاحظ.

وربما استخدام الكاتب هذه الكلمة في العنوان يوحي إلى مرجعية موضوعية، ذات صلة بالوثيقة التاريخية التي تحاول الرواية اعتمادها من دون أن تهمل جماليات الرواية، إذ أفسحت المجال لصوت الأنا والآخر للتعبير بحرية عما يجول في الأعماق، لكن سرعان ما يستبعد المتلقي هذا التأويل بعد أن يلاحظ أنه تم اختزال (الأنا) والاكتفاء بكلمة (أمير)، وهي الكلمة الثانية في العنوان.

 يعول الكاتب على شهرة الشخصية التاريخية لعبد القادر الجزائري، لكن المتلقي سواء أكان عربيا أم غربيا بات يجهلها، خصوصا بعدما أصبح الابتعاد الزمني حتميا عن الفترة التاريخية التي عاش فيها عبد القادر الجزائري، لذلك نَلْمَحُ في حذف الاسم رغبة  لا شعورية من قبل الكاتب في عدم تحديد طبيعة (الأنا)، والاكتفاء بتجسيدها عبر خصوصية الاسم الذي يوحي بهويتها المستقلة وبإنجازاتها في مواجهة الآخر المستعمر، إذ يصح لقب "الأمير" على الأنا والآخر، وبذلك لا يختزل العنوان المقولة الأساسية للرواية، كما أنه قد يحيل ذاكرتنا إلى كتاب "الأمير" لميكيافيلي، من دون أن تكون هناك صلة دلالية بين الرواية وهذا الكتاب.

سبق للمخرج المصري صلاح أبو سيف أن أثار مسألة الأصالة بالنسبة للسينما، وهل يتعلق الأمر بفن يخاطب الميل الإنساني لرؤية آمال البشر وآلامهم، وبالتالي يمكن "تذوقه"، أم لا يعدو الأمر كونها صناعة، تلبي مطالب التسلية، وإغراق الجمهور في عوالم هروبية تُنسيه واقعه المثقل بالملل؟

ربما كانت البداية المحرجة للسينما كوسيلة تسلية رخيصة، سببا في إثارة الاشمئزاز. إلا أن الاختراع الجديد سرعان ما تغلغل في جوانب الحياة الإنسانية، ونافس رواد قاعاته عشاق المكتبات والمسارح. لا يمكن بالتالي إنكار التأثير العميق للسينما في العصر الحديث، فقد ينسى المرء أول كتاب قرأه، لكنه لا ينسى أبدا أول فيلم شاهده. (1)

يولد الفيلم ثمرة تكامل عناصر متعددة: الممثل، والحوار، والمنظر، والموسيقى؛ بالإضافة إلى ما استحدثته الكاميرا من حركة، وزوايا تصوير، ومؤثرات بصرية. كل هذه العناصر يديرها المخرج بأسلوب تناسب وتوازن وإيقاع، يجعل من الفرجة مصدر متعة، وتوليفة حاسمة لتحقق الفهم وتلقي الرسالة. بهذا المعنى يكون للسينما دور في مخاطبة المُشاهد برؤية فنية ورسالة جمالية، يتخطى بفضلها حدود ذاتيته الشخصية إلى قضايا العالم، وهموم الإنسانية من حوله.

هل يُعزى إذن نجاح أغلب الأعمال السينمائية إلى تحقق الرؤية الفنية والرسالة الجمالية اللتين استشعرهما جمهور متذوق؟

ترتبط الإجابة عن السؤال بكيفية تذوق الجمهور للعمل السينمائي، واستكشاف أبعاده الجمالية. والمسألة هنا لا علاقة لها بنوعية الأفلام، يقول صلاح أبو سيف، إذ يمكن للأفلام الهروبية أو أفلام التسلية المجردة أن تكون مثقفة جدا إذا روعي في صناعتها الذوق الرفيع. إن الأمر يتعلق بإشاعة معايير جمالية، تغذي المزاج الثقافي العام، وتتيح تبسيط مفردات العمل الفني بشكل يسمح للجمهور بتحديد نقاط القوة أو الضعف، ومدى جمالية أو تدني مستوى الجمالية فيما يتلقاه داخل قاعات السينما. 

يحتدم رأيان في قضية تذوق الأعمال الأدبية، سعيا لتحديد المسافة بين النص وقارئه. هل يتعلق الأمر بمتعة وجدانية متحررة من أي استدلال عقلي أو مسبقات لغوية وبلاغية؟ أم هي ملكة لا تستوعب جمالية قول شعري أو نثري، إلا باستيفائها شرط الإلمام بمعارف تساعد على الإيضاح وتبديد الغموض؟

إلا أن كلا الرأيين يتفقان على أن التذوق في مجال الآداب لا يتحقق بدون فهم. فالمتذوق في عالم الإحساس الجسمي يكفيه جزء يسير لبلوغ الإحساس المطلوب، سواء تلذذا أو نفورا، بينما يحتاج متذوق الأدب إلى وقت طويل، ينتهي خلاله من قراءة النص أو استماعه إلى نهايته.

تكمن خصوصية الأدب في كونه يتطلب إلماما بنظام رموزه، حيث الكتابة رمز ننفذ من خلاله إلى شيء كامن خلفها. ولذا يتوجب على كل قارئ أن يفك شفرات النص أولا، ثم يحدد مدلول كل كلمة في نفسها أولا، ثم بوضعها داخل سياق تعبيري وتركيبي متعدد بتعدد النصوص الأدبية زمانا ومكانا. وهو الجهد الذي لا تتطلبه التعبيرات الفنية الأخرى، من تشكيل وموسيقى وغيرها.

كل تذوق إذن يشتمل على معرفة في حدها الأدنى بلغة النص الأدبي وأسلوبه، والقواعد التي تحكم جنسه، ثم الاتجاهات التي ينحاز إليها كاتبه، اجتماعية كانت أم سياسية أم غيرها. وهذا يعني أنه لا يوجد قارئ يبدأ من نقطة الصفر كما يؤكد الدكتور إبراهيم عوض (1)، وأن الملكة النفسية التي تدرك نواحي الجمال لابد أن تسبقها عملية الفهم.

 تلهمنا قراءة النصوص الأدبية شعورا مكثفا بالنشوة والامتلاء، لأنها استنطاق لما تحمله الرموز من صور خيالية، ورؤى ومشاعر وجدانية. وهو الشعور الذي لا يتحقق إلا بشكل مضطرب ومشوش في باقي الإبداعات الفنية، حيث اللوحة أو المعزوفة الموسيقية حاضرة أمام المتلقي يعاينها ويسمعها. أما النص الأدبي فلا يُقيد القارئ بهذا الحضور المادي، بل يحرره معتمدا على الخيال الذي لا يلتزم سوى بالخطوط العامة للنص.

هذه الحرية تتيح للمتذوق أن يخلق للنص الأدبي أوضاعا وأشكالا لا حد لها، وأن يستغرق فيه لدرجة الفناء، بحيث يصبح شخصا من شخوصه وليس مجرد متابع. وهي السمة التي يشير إليها أوسكار وايلد في قوله: " تتلخص السمة الوحيدة المميزة للشكل الرائع في أن باستطاعة أي واحد أن يُضمنه ما يخطر على باله، أن يرى فيه ما يريد أو يرغب".

1ــ مدخل إلى عامل

الرواية رسالة لغوية تحمل عالماً متخيلاً من الحوادث، التي تشكّل مبنى روائياً بشكل واسع على شريطي  الزمان والمكان، والتعدد في الشخصيات بما فيها الرئيسية /البطلة، والثانوية كفروع مكملة، والوقائع والأحداث التي تتعاقب أو تتزامن؛ والسارد الذي يحكي لنا بالتفصيل؛  فهي تشتغل كالقصة على الحدث أو الأحداث، وكيفية بنائها داخل تقنيات الأزمنة وأنواع الأمكنة، وتحريك الشخصيات حسب الوقائع... ومبدعنا دخل غمارها متسلحا بثلاثة أعمدة لا يمكن استثناء أحد منها عن الآخر، أولها الأفكار التي لملمها  من الواقع المعيش، وخصّبها  في دنّ المخيلة بالإضافات  والحذف  والتوليد..  ثانيها  اللغة  التي جمع قاموسها من تجارب متنوعة من محيطه عن طريق الاطلاع والتلاقح ، وخزانه المعرفي الموروث عن الأجداد والأسلاف.. ثالثها  الحبكة السردية التي مكنت مبدعنا من توظيف هذه العناصر، وتركيبها في بناء سردي /حكائي ... فهذه  فالعوامل مجتمعة، كانت حافزا بليغا  على  الزج بمبدعنا في عالم الرواية ...

2ــ ملخص حول محتوى الرواية

كان لمكتبتي احتضان المنجز الأدبي، حين تسلمته شخصيا من صاحبه بإهداء  محترم سرّني ، تحت عنوان :(جراح غائرة ) من الحجم المتوسط 196 صفحة، مجزأة إلى 43 جزءا،  ممكن اعتبارها فصولا، ولو ليست مقيدة بعناوين تثبت ذلك.. تحكي الرواية عن قرية صغيرة تقطنها السيدة عائشة، اختطفت ابنتها زينب من باب المدرسة، وبحثت عنها، ولم تجدها، فاختفت هي الأخرى.. وأصبحت القرية تعيش فوضى باجتياح اختطاف التلاميذ من المدرسة، وهينمة أخطبوط  العقارات، وأصحاب المصالح الشخصية  وإفراغ الساكنة من بيوتهم ، ومزارعهم ، واجتياح المباني  الإسمنتية؛  فتحولت من قرية جميلة بأغراسها وحقولها إلى قرية ملوثة، تتراكم فيها الأزبال، وتتناسل الأحداث؛ وتتفشى  فيها ظواهر مقلقة كالفقر والبؤس والدعارة، والسرقة والقتل، وتطال يد الإفراغ  عبد المالك زوج عائشة وأبا  زينب هو الآخر .. وتتوالى الاحتجاجات.. أخيرا تعود عائشة فتجد مكان مسكنها خرابا ....

والقرية دون منازع هي رمز وإشارة حقيقية إلى الوطن ، وما يجري فيه اليوم من أحداث مؤسفة وقاتلة ، تشمئز منها النفوس ...

صدرت الرواية في حلة أنيقة عن مطبعة النورس زرار /الطبعة الأولى، تخلو من أي تقديم ، تاركا مبدعنا بوشعيب الإدريسي المجال ، ليقدم الإبداع نفسه بنفسه ..

3ـــ العتبات  النصية كبوابة لاقتحام المضمومة

أي كتاب يلمسه القارئ، لابد وأن يقلبه بين يديه، قبل بدء قراءته، يتفحصه، ويطلع على عتباته النصية التي تقوده إلى المحتوى، لتساعده على فهم المقروء: كالغلاف، والعنوان، واللوحة،  والألوان   وما جاور ذلك.. ولقد أسهم الوعي النقدي الجديد في إثارة علاقة العتبات والنصوص المحيطة، أو المجاورة بالموضوع الأساسي، فأضحى مفهوم العتبة ، مكونا نصيا جوهريا له خصائصه الشكلية، ووظائفه الدلالية التي تؤهله للانخراط  في مساءلة  ومحاورة بنيات دالة، لها نفس الدرجة من التعقيد من بنية النص وأفق التوقع... وبدوري قمت كقارئة بنفس الفعل.. أسائل العتبات النصية عنصرا عنصرا بشكل متواضع قبل اقتحامي المحتوى ...

إذا أحصينا ما يُستعصى على النّسيان ليعشّش في الذّاكرة ويصبح وكرًا ثابتًا ومستقرًّا نأوي إليه في كل موسم يحضن أفكارنا  كي نزوّد العالم  بما يتناساه الإنسان عمدًا من شدة ألم فوات مطلوب، نعثر في قائمة المنقوش على جبين أحجار جبال خمير والمحفور على جذوع شجر الفلين والزّان والمطبوع على ثرى طرق  البداوة والقرى الرّيفية النائمة بين أحضان جبال خمير، تحاكي في جمالية اختبائها أعشاشًا بحثنا عنها في لحظات الطّفولة، نعثر على رواية "ورقات من تباريح الأيام" لكاتبها عبد الرزّاق  السّومري ابن مدينة عين دراهم الواقعة شمال غرب البلاد التونسية أين ولد وتعلم من قمم الجبال وقساوة الطّبيعة فنّ التّحليق بواسطة الرّيح ضد الرّيح مسكونًا بهاجس الإشراف من علوّ شاهق على ما لا تراه عيون العابرين في الطّرق المتعرجة. أين يمكن لشجرة واحدة أن تُخفيَ الحقيقة؟ وأين يمكن لمنعرج واحد أن يجعلنا نتخفّى عن أنظار من يلاحقوننا؟ كي يسدّوا علينا منافذ العبور الى جمال المنسيّ والمهمّش والمقصيّ والمتروك لأقداره تعبث بوحدته وتفرّده لتسكن كأرواحٍ شرّيرة بيوتًا مهجورة أو مقابر منسيّة أو نفوسًا طيّبة جرحت قساوة الزّمن لحمها الطّريّ وأنهكها المسير، لكن خطواتها رسمت للقارئ طُرقا نعبر منها السّبيل إلى ولادة المعنى وسكينة الرّوح حين يأخذنا الكاتبُ الى عوالم ليس لنا بها عهد، تختزن جمال المحكيّ وتروي تفاصيل الآلام، لا لكيْ ينتشل تلك العوالم من النّسيان والتّلاشي فقط، بل لينبّهنا أيضًا إلى إمكانية الإحساس بأنّنا أحياء، وأنه ثمة فرق بين أن نعيش كالعُميان أو أن نشعر بالحياة ونتملّى التّفاصيل. أحيانًا ينتابك شعورٌ وأنت تقرأ نصّ التّباريح، أنّه من جنس رواية التّفاصيل، وبالتّفاصيل يرأب الكاتب شروخ الذّاكرة ويحاول لملمة النّسيان وإعادة الهامشيّ والمنسيّ والمقصيّ إلى حرم الذّاكرة الجماعيّة تفصيل نقرأها في تاريخ هروب المعارضين السياسيين عبر الوادي الكبير إلى الجزائر، في ليالي السّمر والحكايات والمواويل القديمة، في مواسم الغجر وبدايات الخريف، في ليالي الأنفاق في باريس، في تلك الرخامة المنقوشة على بيت "إديث بياف" في "بال فيل" والتي تحكي كيف ولدت على الرصيف ثمّ هزّ صوتها العالم.

تمثل رواية "متاهة الأشباح" لبرهان شاوي إحدى الأعمال الأدبية المميزة التي تجمع بين العمق الفلسفي والغموض الأدبي. الرواية هي جزء من سلسلة "المتاهة"، التي تركت بصمة خاصة في الأدب العربي المعاصر. في "متاهة الأشباح"، نجد أنفسنا في عالم معقد مليء بالصراعات الداخلية والتشظي النفسي، حيث تعيش الشخصيات في حالة وجودية غامضة تتأرجح بين الحياة والموت، بين الماضي والحاضر، وبين الحقيقة والوهم. تعد هذه الرواية مرآة تعكس التحديات التي يواجهها الإنسان المعاصر في رحلته للبحث عن ذاته وهويته وسط ضجيج العالم الخارجي وتناقضاته. من خلال شخصيات معقدة ورمزية، يقدم شاوي تجربة سردية غنية بالمعاني التي تتناول أبعادًا نفسية وفلسفية، تتخطى الحدود التقليدية للسرد الروائي، وتفتح الباب أمام تأملات عميقة حول طبيعة الوجود الإنساني.
في "متاهة الأشباح"، يعتمد برهان شاوي على بناء شخصيات تحمل أبعادًا نفسية وفلسفية متداخلة، تعكس التوترات والصراعات الداخلية التي يعيشها الإنسان في مواجهة ذاته ومجتمعه. الشخصيات في الرواية ليست مجرد أدوات روائية تحركها حبكة معينة، بل هي تجسيدات حية لمفاهيم فلسفية ونفسية تتعلق بالوجود والهوية والصراع الذاتي. غالبًا ما نجد هذه الشخصيات عالقة في حالة من التعليق بين عوالم مختلفة، وكأنها تعيش في فراغ لا ينتمي إلى مكان محدد أو زمن معين. هذا التعليق بين الحياة والموت، بين الماضي والمستقبل، وبين الواقع والخيال، يعكس الصراع النفسي العميق الذي تواجهه الشخصيات وهي تحاول فهم موقعها في هذا العالم المعقد. تعيش الشخصيات في حالة دائمة من الاغتراب، حيث تبدو غريبة عن نفسها ومحيطها، مما يجعلها تدور في دوامة لا تنتهي من التساؤلات حول هويتها ومعنى حياتها. إحدى السمات البارزة لهذه الشخصيات هي أنها تحمل بداخلها شظايا من الذكريات والأحداث المؤلمة التي لم تتمكن من تجاوزها، مما يدفعها إلى البحث عن خلاص ذاتي قد لا يكون موجودًا. تتصارع الشخصيات مع أشباح الماضي التي تعيد إحياء الصدمات النفسية والأحداث المؤلمة التي أثرت على حياتها. هذه الأشباح ليست مجرد تجسيد لذكريات ماضية، بل هي قوة فعالة تؤثر بشكل مستمر على الحاضر والمستقبل، مما يضع الشخصيات في مواجهة دائمة مع ماضيها.