
وهنا تغدو أهمية المحاولة في إعادة النظر في أهم جانب من تاريخ المعرفة في الإسلام. هذه المعرفة التي يجب أن يُنظر إليها لا كإنتاجات فردية محضة أو كجزرٍ ثقافية معزولة، مقطوعة الصلة بمحيطها الاجتماعي والتاريخي، وإنما يجب النظر إليها انطلاقاً من وظيفية المعرفة الأصولية داخل جمهور المجتمعات الإسلامية، فالعلاقة جدليةٌ بين إنتاج المعرفة عند رجل العلم في الإسلام وبين معاناته اليومية لمشاكل ذلك الجمهور3.
فدَرسُ علم الأصول وإعادة تقويم بنية خطابه وطبيعة تشكّله ضمن الهموم والمشاغل المعرفية والاجتماعية لظرفيته التاريخية يجعل من تاريخ إنتاج المعرفة وتدوينها في الإسلام تاريخاً للمجتمع بأكمله بشكلٍ من الأشكال، والوقوف من جديد على بنية الخطاب الأصولي، وخاصة على طبيعة المقاصد الشرعية الكلية، من شأنه تجنيب الفكر الإسلامي المعاصر مزالق الوقوع في الغلّو والتقصير معاً، وذلك بفضل ما يتضمنه منطق تلك المقاصد من مراعاةٍ لطبيعة الوقائع، والعمل بالتدريج على تطويعه .
لقد تداخل الأخلاقي والسياسي في العلوم الإسلامية، إذ نلاحظ أنه بقدر ما تتعين أسماء المؤمن والفاسق والكافر بقدر ما تتحدد أحكام كلِّ واحدٍ منهم في المجتمع السياسي قبل الآخرة، وهو ما يعني أن التحديد الميتافيزيقي، لكلٍ من الإيمان والفسق والمكر يتخذ بالضرورة بعداً سياسياً، يؤدي مباشرةً إلى مسألة الحقوق والواجبات المجتمعية والسياسية4.
تجلّت هذه الظاهرة أيضاً "ظاهرة التداخل المعرفي" في الآداب السلطانية5،و في خطاب أبي الحسن الأشعري الكلامي. الذي يبني حكماً على واقعٍ سياسي تعيشه الأمة، حكماً يتخذ صفة الأبدية لما بعده والإلزام لمن يليه، إذ ما دام "الفساد" قد ظهر في البر والبحر، فلا يجوز الحديث عن ميثاقٍ يربط الحاكم بالمحكومين، والراعي بالرعية، بل حتى لو جاز الحديث عن ميثاق في بداية تأسيس السلطة السياسية وعقدها، فإن هذا الميثاق يفقد كل مصداقيته عقب ذلك (العقد) حيث إنَّ الأشعري يُوحي (وجوب الطاعة) من جانب الرعية، حتى لو أخلّ الإمام بكل التزامات عقده تجاهها، وحين قيامها بمطالبته بالالتزام بمضمون ميثاقه، وموجب عقد بيعته «وهو العدل والحكمة ورعاية المصلحة العامة» فإنها في رأي الأشعري، تكون هي الضالّة والظالمة.