
نحاول في هذه المقالة رصد مواقف المختصين، وغير المختصين من اللغة. ثم نعرِّف بالتعيير اللغوي، وأهدافه ومزاياه، وتقاليد المحافظة عليه، وسلبيات وحدوده في واقع اللغة والاستعمال. بعد ذلك، نناقش، على ضوء ما أوردناه، مواقف القدماء من الفصيح والفصاحة، ونقف على عدد من الثغرات.
2. مواقف الناس العاديين من اللغة
تسير المواقف العامة التي يعتقدها الناس، بصفة شخصية، في اتجاهين.1 الأول معاكس لاتجاه المختصين من اللغويين، والثاني مضاد لمعتقدات الناس أنفسهم، ولما يمارسونه، فعلاً، ويُظهرونه من خلال سلوكاتهم اللغوية. وتتجلى التصورات المعاكسة للمقاربات المختصة فيما يُصدره الناس من أحكام قيمة (value-judgement). فقد تعود الناس منذ قدم الزمان على تصور اللغة رمزاً لما تشير إليه في الواقع الخارجي. ولعل الاعتقاد بوجود تلك العلاقة هو ما يجعلهم يتجنبون الكلمات التي يظنون أنها تتوفر على خصائص سحرية، أو أنها موضوع للمحرم والطابو (tabu) أو أنها تحيل على الإله أو المرض أو الجنس أو الموت. ويدخل في هذا الإطار تجنبهم الكلمات التي تقترن بالوظائف الجسدية، ويستبدلونها بأخرى لائقة في السياقات غير الرسمية، وتقنية في السياقات الرسمية ( غائط، مثلاً ). وحين يرى الناس الخنزير يتمرغ في الوحل يعتقدون أن اسمه ينطبق عليه، وأنه ما سمي بذلك إلا لعادته المقرفة تلك. وكما يتصورون وجود خصائص السحر والمحرم والسلطة في الكلمة، يذهبون مذاهب أخرى أسبابها مجتمعية وثقافية وطبقية، فيعتبرون بعض اللهجات أجمل من أخرى، وبعض اللغات أحسن من أخرى، وبعض البنيات النحوية والصوتية أكفى من أخرى.
ولقد ذهب اللسانيون وعلماء النفس الاجتماعيون الذين درسوا المواقف العامة إلى أن الناس يُصرحون بأشياء، ويُمارسون أخرى. فقد يُدينون استعمالاً لغوياً معيناً إذا سمعوه من آخر، في الوقت الذي يستعملونه، هم أنفسهم، وقد يُجيبون على جامعي المعلومات بكونهم يستعملون المتغيرات المعيار، أو النطق المعيار، أو اللغة المعيار، مع أنهم، في الحقيقة، يستعملون النماذج غير المعيار. ويُفسر الدارسون السوسيولسانيون مفارقة استعمال نموذج، وادعاء غيره بوعي الناس وإدراكهم بما يتفق مع النمط العام، أي ما يُعرف بمصطلح المُقَْولَبات المجتمعية (social stereotypes)، وبالقيم التي تُلصق بالاستعمالات اللغوية واللغات. إنهم حين يظهرون عكس ما يُمارسون أو يعتقدون يتجنبون وصف الآخرين لهم بالجهل أو الدونية وعدم الرقي، وغير ذلك من الأحكام التي تقترن باستعمال "أحسن الناس" أو "أفضل الناس" في المجتمع.