
بول تلّيش واحد من تلك الثلّة التي استشعرت مسؤولية التجديد في التاريخ، من خلال السعي لإعادة تشكيل نسق الحقائق الوجودية وصياغتها، بصفتها عملية مستجدة مع كل جماعة بشرية، تأتي ضمن الوفاء للمنطلق، للمرجع، والالتزام بالواقع وتحوّلاته، داخل توازن رؤيوي.
فليس خافيا أن مقاومة شرسة لقيها الدين في أوروبا خلال القرون الأخيرة، أخرجته من بنى التفكير الغربي، لتلقي به بعيدا داخل كهف المشاعر الخاصة، والحنين للفضاء الأسطوري المتخلّد في اللاوعي البشري. ومعاودة تأسيس خطاب الدين في العقل والوجدان الأوروبيين، هي إحدى المغامرات الشائكة، إن لم نقل الميؤوسة في ظلّ حملات الاجتثاث والمطاردة، الممتدّة من الظاهري إلى الباطني، أو بشكل أوضح من الاجتماعي إلى النفسي. ذلك أن الإبعاد المتواصل للدّيني من الحقل الثقافي، والمتأتي من افتقاد أواصر الثقة المعرفية والوجودية من الناطق والمنطوق الدينيين، خلّف اندحارا لكل ما هو روحي في الغرب، وولّد حصرا له داخل أقبية الأديرة والكنائس. وانطلاقا من واقع الهشيم الكارثي الذي بلغه الدين، حاول بول تليش بعثه مجددا داخل المنظومة الثقافية، بحسب ما يسمّيه لاهوت الثقافة. فهل من السهل بعد غياب تجربة الله، وحلول تجربة العدم، أن يحيي الميت من جديد؟
ضمن هذا الواقع الذي عاشه الدّين تشكّل المشروع التلّيشي، الذي بقدر إيمان صاحبه بالرسالة الدينية كان على التزام بالانخراط الواعي في قضايا عصره وتطلّعاته. حيث أن التساكن بين جوهر المسيحية ومنطق العصر الحديث، دون تضارب أو تقابل بينهما، مثّل أحد الزوايا الأساسية في العمارة التلّيشية. ولا يعني أن الوعي التليشي بالمسيحية كان وعيا براغماتيا باحثا عن تجاوز حال الفصام مع العصر، جراء الاستنكاف عن الدنيوي طيلة قرون خلت، ولكن الأمر نابع من إيمان بحدوث تشوّه في الجوهر الرسالي، تشوّه مسّ النص وتشوه مسّ الوعي بالنص، بفعل التحوير الكريغمي المتستّر عليه، الذي حدث في المسيحية ولم يلتفت فيه لنتائج مدرسة نقد الأناجيل.