
وبديهي أن تفرز الصحوة البروجوازية بنزعتها الليبرالية في التفكير أعلاماً في حقل المعارف التاريخية، لإحداث النقلة في هذا الميدان، بما يواكب التطور الجديد. ولكن الانعطافات الفكرية الكبرى لا تحدث بين عشية وضحاها، فوفقاً لقوانين الجدل يتم التحول تدريجياً، ويظل الفكر السالف يمارس فعالياته إبان عمليات التحول حتى يتلاشى رويداً رويداً، في الوقت نفسه الذي يولد فيه الفكر الجديد ليحل تدريجياً محل القديم.
وإذا ما وضعنا في الاعتبار ما سبق تأكيده من أن نمط الإنتاج البورجوازي السائد بأبنيته الفوقية ـ بطبيعة الحال ـ ولد ولادة متعسرة لم يبرأ من عاهاتها تماماً، مما أعطى نفساً للنمط الإقطاعي الآفل، أدركنا سر استمرارية أغطيته الفكرية تترنح لفترة طويلة دون أن تموت.
في ضوء هذا التحليل يمكن القول: إن المعطيات السابقة لعصور ما قبل الصحوة بصدد الفكر التاريخي ظلت متواجدة في عصر الصحوة، وأن تجاوزها تم بعد تمثلها واستيعابها، وأن هذا التجاوز تم ببطء، لأن معطيات الماضي أصبحت موضوع أولئك الذين تجاوزوا تصور الماضين له.
نفصل ذلك فنقول: إن موضوعات المعارف التاريخية السابقة ظلت في المرحلة الأولى من نشأة علم التاريخ إبان عصر الصحوة هي هي من حيث الشكل، وإن لحقها تطوير في المضمون والمنهج والرؤية. فرواية السير والمغازي وأخبار التراث القبلي والقصص القديم ظلت تشكل عصب المعارف التاريخية في المرحلة التي نحن بصددها، وإن كان من الملاحظ حدوث تطور مؤداه جمع السير والمغازي مع القصص القديم في مبحث واحد.
وقد برز في هذا الصدد عالمان شهيران هما محمد بن إسحاق (ت 151هـ ) ومحمد بن عمر الواقدي (ت 207هـ ) يعزى إليهما الفضل في تطوير هذا الفرع من المعرفة التاريخية. ولا غرو، فهما إفراز لعصر الصحوة البورجوازية أي من أصحاب الاتجاه الليبرالي، فالأول قدري الفكر شيعي الهوى أخذ بعض علمه عن عبدالله بن الحسن بن الحسين بن علي، والثاني كان ذا ميول علوية، وكلاهما حظي بمؤازرة النظام العباسي (المتبرجز) فقد اشتغل ابن إسحاق في خدمة المنصور وحاز رضاه حتى لقد كتب سيرة الرسول وأهداها إليه، كما كان الواقدي من قضاة المأمون الذي أغدق عليه لاستنارته، ومعلوم أن هذه الظاهرة من مآثر الصحوة البورجوازية.