سُحب من المكتبات الإيطالية خلال الأيّام القليلة الماضية كتاب "أعياد فصح دامية: يهود أوروبا والقتل الشّعائري"، الذي نشرته دار "مولينو" بمدينة بولونيا، لما أثاره من انتقادات بين يهود إيطاليا. والمؤلَّف للمؤرّخ اليهودي أرييل طُوَاف، أستاذ التّاريخ الوسيط وتاريخ عصر النّهضة في جامعة بار إيلان، معقل الأرثوذكسية بإسرائيل. المؤرّخ إيطالي الأصل، ابن حاخام روما الأسبق ورئيس اتحاد الجاليات اليهوديّة الإيطالية، إيليو طواف.
تتمثّل أطروحة صاحب الكتاب في إعادة النّظر في حيثيات التّهم والمحاكمات والاعترافات، ذات الصّلة بالقتل الشّعائري للأطفال، الذي نسب لأفراد وجماعات يهودية، من طرف محاكم التّفتيش، في أوروبا في العصر الوسيط، ما بين 1100 و 1500م، في المنطقة النّاطقة بالألمانية، الممتدّة بين رينو والدّانوب وآديجي، والتي ضمّت دويلة ترنتو التابعة، لإيطاليا في الوقت الحالي. وهي منطقة، جرّاء ما خلّفته المجازر والتّنصير القسري فيها، صارت مغلقة على يهودها، يميزهم التوجّس والعنف تجاه الخارج.
أصالة المؤرّخ في شهادته على الذّات الحضارية والدّينية التي ينحدر منها بالخطأ، فقد خلص إلى التورّط الفعلي لبعض أبناء ملّته في ممارسات قتل شعائري، بغرض إضافة دم الضّحايا للفطير المقدّس. وتصريحه بذلك يعبّر عن أمانة علمية قلّ نظيرها اليوم، في التعامل مع مسألة طالما صنِّفت من جملة الافتراءات التي ألحقت باليهود، لما لفّ الموضوع من أسطرة مما أخرجه من حيز الواقعية.
الخطير كما يقول المؤرّخ أن تابو اللاسامية صار يهدّد ويعوق أي بحث حرّ وأمين. رغم ذلك لم يحسب حسابات ضيّقة لما سيخلّفه مقوله من أثر عليه، وعلى طائفته، وعلى دينه، ووالده كان بالأمس القريب النّاطق الرّسمي والزّعيم الأوحد للجاليات اليهودية في إيطاليا.
يخلص المؤرّخ أرييل طُوَاف إلى أنّ مجموعة من الأشكناز، من غُلاة اليهود الأوروبيين، لا عامة اليهود، ممن لم يلتزموا بتعاليم التّوراة بتحريم سفك الدّماء، مارست هذه الشّعائر واستباحت دماء أبرياء. بغرض استعماله للأزيم، الخبز غير المخمّر، الذي يتناول أثناء الفصح اليهودي، كما يضاف إلى الخمرة في ذكرى الخروج والخلاص من مصر الفرعونية.
حضرت إيطاليا بشكل بارز في الكتاب، عبر حادثة مقتل الطّفل سيمون بترنتو خلال 1475، وهو ما قاد لاحقا إلى التهجير شبه الكامل للجالية اليهودية من تلك الدويلة عصرئذ.
الجذور التاريخية ـ الحضارية للظاهرة التوفيقية - د. محمد عابد الجابري
1ـ في الشرق الأدنى القديم:
التوفيقية الفكرية والمجتمعية التي تتوالد ضمن التطور التاريخي للشرق العربي، هل هي مجرد استجابة آنية لظروف وقتية عابرة ستزول بزوالها، وبالتالي طفرة منبتّة الجذور، منقطعة الصلة بالاستمرارية التاريخية ـ الحضارية للمنطقة، أم إنها إحياء واستعادة لنمط متكرر في سياق تلك الاستمرارية؟
إذا كانت الظاهرات الفكرية والمجتمعية لا تبرز من فراغ، وإذا كانت العصور لا تبدأ منقطعة الصلة بما سبقها، فلا بد من التنقيب تحت سطح الأرضية المعاصرة لاكتشاف حفائر التكون الحضاري التوفيقي في طبقاته التاريخية المتراكمة ولاستبانة أجيال السلالة الفكرية التوفيقية التي توالدت عبر العصور، حتى أنجبت الكائن المعاصر موضع الدرس، وذلك ليكون بحثنا في مناحي التوفيقية المعاصرة مستنداً إلى جذوره التاريخية القديمة، بعد أن رأينا مدى صلتها بالبيئة الاجتماعية السياسية الحديثة التي تولدت فيها.
تبدو (الظاهرة التوفيقية) على الصعيد الحضاري العام ـ وفيما يتعدى النطاق الكلامي الفلسفي الخالص ظاهرة قديمة الجذور في تاريخ الشرق الأدنى. ويمكن إيجاز أبرز معالمها وأدلها، وتبيان طبقاتها المتعاقبة وصورها المتكررة المستعادة في تتبع التشكلات الحضارية التاريخية التالية بشكل وجيز ومكثف.
أولاً: عندما حدثت المواجهة بين التراث العقلي الهيليني والتقليد الديني العبراني في القرون السابقة للمسيحية نشأت الحاجة لأول مرة في الشرق الأدنى ـ وربما في تاريخ العالم ـ إلى إقامة التوفيق بين العقل والإيمان وبين المنطق الانساني والوحي الإلهي، وشهدت الديانة الموسوية جهداً عقلياً ونشاطاً دينياً متفلسفاً كان أبرز مفكريه (فيلون) الذي عاش بين القرنين الأول قبل الميلاد والأول الميلادي، وجاء بالمفهومين المزدوجين القائلين: إن النص الديني (التوراة) وحي إلهي، وإن الفلسفة اليونانية تمثل الحقيقة الكونية، وعليه فقد وجد نفسه في مواجهة مشكلة (إقامة التوفيق reconciliation) بين الفلسفة والشريعة، بين أفلاطون وموسى. ويرى أرنولد توينبي ان هذه المجابهة المبكرة بين التأثير الإغريقي (الهيليني) الوافد مع النفوذ الروماني، وبين التراث الديني الإيماني للمشرق السوري لم تقف عند حدود إقامة توفيقية دينية فلسفية في اليهودية، بل مثلت ـ حسب تعبيره ـ الجدلية الخلاقة التي أثمرت المسيحية.
الـدِيـن والـتـأويـل - أوكـتافـيو بـاث

وليس صعباً أن نستنتج من نقد هيوم النتيجة التالية: أن أصل فكرة التاريخ كتقدم هو ديني والفكرة نفسها شبيهة جداً بالدين. إنها نتيجة استنتاج ناقص: الاعتقاد بأن الطبيعة لها خطة، ومماثلة هذه الخطة مع حركة التاريخ والمجتمع إلى الأمام. ويظهر خط التفكير نفسه في جميع الأديان والأديان الزائفة في مرحلتها الأولى، كما لوحظ الانتظام الحقيقي أو الظاهر. وأدخلت فكرة الغائية في نظام الطبيعة، بعد ذلك على الفور، عزيت التغييرات والاضطرابات الاجتماعية إلى فعل المبدأ نفسه الذي يدفع الطبيعة إلى العمل.
تحقيب التاريخ الاسلامي – د.عبد الله العروي
لم يميز المؤلفون المسلمون بين التحقيب والتأريخ كما يدل على ذلك التعريف الذي يقول: التاريخ تعريف الوقت بإسناده إلى أول حدوث أمر شائع وقيل إنه مدّة معلومة بين حدوث أمر ظاهر وبين أوقات حوادث أخر. التعريف الثاني، النسبي، هو الذي يفيد فكرة التحقيب.
يلجأ المؤرخون الذين كتبوا بالعربية، أكانوا مسلمين أو لا، إلى تقسيم تقليدي نلخصه في النقاط التالية:
1- يسوقون في قسم تمهيدي الملاحم والأساطير على صورتها الشائعة بين أصحابها، في غياب قياس برهاني يمكن من تمحيصها. يحشرون المرويات المتعلقة ببداية الكون والأرض والإنسان وكذلك أخبار الأمم البائدة أو النائية مثل الصين والهند والزنوج وسكان المناطق الشمالية. فهذا القسم هو بمثابة وصف _كوني (كوسموغرافيا)، وصف _جنسي (اثنوغرافيا ووصف _ أرضي (جيوغرافيا).
2- ثم ينتقلون، في قسم لاحق، إلى أخبار الأنبياء والرسل معتمدين على ما جاء في التوراة، وبالمناسبة يذكرون أخبار الأمم التي كانت لها علاقة ببني إسرائيل كالكلدانيين والسريانيين وغيرهم.
3 - ثم يروون، في قسم ثالث، أخبار الملوك، أي وقائع الامبراطوريات القديمة، الفارسية واليونانية والرومانية، ويذكرون بالمناسبة أيام العرب الأولين.
4 - ثم يقصّون، في قسم رابع، تاريخ العرب بعد ظهور الإسلام ويلحقون بهذا التاريخ ما يعرفون عن الروم والإفرنج وملوك الهند وغيرهم.
5 - ثم يسوقون، في قسم خاص، أخبار العجم من أتراك وبربر، إلخ. وبما أن هذا التاريخ لا يزال في تطور، فإن الرواية تنحلّ تدريجياً في حوليات قابلة للوصل والتكملة.
وهكذا نلاحظ نفس الاتجاه العام في التأليفين، العربي والغربي، من أخبار الأمم والدول (الحقبيات والتجارب) إلى أحداث السنوات وربما الشهور (الحوليات واليوميات). لا يوجد إذاً فرق جوهري بين الاسطوغرافيتين، اللهم ان الإسلامية أوسع مادة وأكثر دقة فيما يتعلق بأخبار الشرق والمناطق المجاورة له وأكثر خلطاً وإيجازاً عندما تتعرض لأخبار اليونان والرومان.
يوجد إذاً توافق ضمني بين التحقيبين التقليديين، الإسلامي والغربي، ويدخل في هذا الإطار اقتراح المؤرخ الامريكي مارشال هودجسُن الذي يميز داخل التاريخ الإسلامي الفترات التالية:
بواكير الفكر التاريخي الإسلامي - د. محمود اسماعيل

والصواب _فيما نرى _ أن كل موضوعات التاريخ _وبالتالي فكرة التاريخ_ كانت ذات طابع دنيوي؛ فسيرة الرسول ومغازيه ليست إلا أحداثا ووقائع حدثت على مسرح التاريخ، هذا فضلا عن أن الاهتمام بدراستها ودراسة القصص العربي القديم والتراث القبلي جرى لخدمة أغراض عملية دنيوية. وإذ اختلطت موضوعات التاريخ بغيرها من الموضوعات الأخرى كالحديث والفقه، فالثابت أن جهود المحدثين والفقهاء كذلك كانت تحركها حوافز حياتية؛ سياسية واقتصادية واجتماعية.
وتكمن تلك الحوافز _التي كانت من وراء النشاط الفكري عموما _ في محاولة الخلافة _وخاصة في عهد عمر _ مواجهة المشكلات العديدة التي نجمت عن اتساع الدولة الإسلامية بعد الفتوح، وإقرار نظم وتشريعات تكفل إدارتها. كانت كافة المشكلات وطرائق إيجاد حلول لها ذات طابع دنيوي، ولعل من أهمها المسائل الإدارية، والمالية، وأوضاع أهل الذمة، وتحديد العلاقات بين دار الحرب ودار الإسلام... الخ. ولا غرو فقد جاء التشريع متسقاً مع طبيعة تلك المشكلات. حيث أقر الخليفة عمر كافة التنظيمات الموجودة وأبقاها على حالها، مجتهداً في تأويل الشرع بما يجاري ويساير الواقع.
كما استجدت مشكلات متعلقة بالعرب أنفسهم؛ كانت جذورها تضرب في عصر ما قبل الإسلام، وإن اكتسبت في ظل الحكومة الثيوقراطية صبغة جديدة، أعني الصراعات والسخائم القبلية التي أعيدت صياغتها في شكل تيارات حزبية سياسية واجتماعية، احتوت العصبية القبلية في باطنها.
قصارى القول _إن تلك المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها أصبحت موضوعا للتاريخ الإسلامي، فاتسعت دائرة مباحثه باتساع الإمبراطورية التي احتوت شعوبا أخرى غير العرب، وبديهي أن يحتوي موضوع التاريخ فضلا عن تراث العرب؛ تراث الشعوب الأخرى التي دخلت في نطاق الإسلام.
البربر/ الأمازيغ؛ ازدواجية التسمية ووحدة الأصل -الجزء الثاني - التجاني بولعوالي

في المقابل، إذا كانت دلالة مصطلح أمازيغ اللغوية تعني الرجل/الإنسان الحر، فإن الدلالة التاريخية والسياقية تحيل على أن أمازيغ هو الأب الروحي للبربر أو الأمازيغيين، وذلك اعتمادا على ما ذهب إليه ابن خلدون في تحديده لنسب الأمازيغ. فهو يقول في المقدمة:" والحق الذي لا ينبغي التعويل على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح عليه السلام... وأن اسم أبيهم أمازيغ". فابن خلدون يحاول هنا الفصل في أمرين مهمين: أولهما يتعلق بأصل الأمازيغ وثانيهما يرتبط باسم أبيهم.
بخصوص الأمر الأول الذي يقترن بأصل الأمازيغ، نشب جدال ساخن انقسم فيه المتجادلون إلى تيارات ثلاث
1- دعاة التيار الأول تأثروا بالفكر الاستعماري الغربي، حيث يرون أن أصل سكان المغرب الأقدمون إنما يتأصل في أوروبا، إذ ثمة معطيات لغوية وبشرية كثيرة تشير إلى أن الإنسان الأمازيغي يمت بشكل أو بآخر بصلة إلى الجنس الوندالي المنحدر من ألمانيا (حاليا)، والذي سبق له وأن استعمر شمال أفريقيا. هذا التفسير ينطوي على مؤشرات بمقدورها أن تغالط وتخادع البعض، خصوصا وأنها تركز أولا على الناحية اللغوية، فتدعي أن ثمة تماثلا لغويا بين الأمازيغية ولغة الوندال التي هي الجرمانية، لكن هذا لا يعدو الجانب المعجمي حيث هناك بعض الكلمات الأمازيغية المعدودة، التي لها مقابلات لفظية وليس دلالية في الجرمانية، وهذا أمر جد طبيعي، حيث تمكن علم اللسانيات الحديث من اكتشاف الكثير من مثل هذه الظواهر اللغوية الناشئة، إما عن طريق الاقتراض اللغوي أو بالصدفة. وتستند ثانيا إلى ذلك التشابه الكائن بين ملامح البربر والأوروبيين كلون العينين الأزرق، ولون الشعر الأشقر وغير ذلك، غير أن هذا الدليل يظل نسبيا مادام الأوروبيون قد استعمروا بلاد الشمال الأفريقي غير ما مرة، لذلك ليس ببعيد أن يكون قد تم التزاوج والتمازج بين هذين الجنسين، مما نتج عنه ظهور أجيال أمازيغية تحمل ملامح أوروبية.
2- أما أصحاب التيار الثاني فهم حديثو العهد، حيث تنبني وجهة نظرهم على بعض الكشوفات الأركيولوجية والأنثروبولوجية؛ إذ تم العثور على أول إنسان في التاريخ في بعض مناطق أفريقيا(بوتسوانا بجنوب أفريقيا، غرب أفريقيا وكينيا)، بل فقد أوضحت بعض الدلائل والاكتشافات العلمية الجديدة، أن أصل الإنسان الحديث ربما لا يعود فقط إلى أفريقيا، وإنما يرجع إليها ظهور أقدم دلائل السلوك الحضاري للإنسان. لذلك يعتقدون أن الإنسان الأمازيغي لم يهاجر إلى شمال أفريقيا من منطقة ما، وإنما كان فيها منذ بداية تاريخ الإنسانية.
البربر/ الأمازيغ؛ ازدواجية التسمية ووحدة الأصل -الجزء الأول - التجاني بولعوالي

شاع حول لفظة البربر تصور مبني على أحكام القيمة والإقصاء والانغلاق، يختزل دلالاتها في كل ما هو متوحش أو همجي أو بدائي أو نحو ذلك. ولا يعدو هذا التصور المعنى اللغوي والمعجمي المبثوث في بعض القواميس سواء العربية أم الأجنبية التي تتضمن أكثر من تلبيس أو مغالطة، حيث لا يرجع أصحابها إلى تاريخ هذا المصطلح ليثبتوا جذوره الحقيقية وإرهاصاته الأولى، ويطلعوا على الكيفية التي نشأ بها، بل ويتعقبوا تطوراته اللغوية وتبدله المعنوي، فيدركوا أن أصل هذه الكلمة إغريقي صرف، حيث سمى اليونانيون القدامى كل من لا يتكلم بالإغريقية (بارباروس)، ثم استعار الرومان نفس المصطلح فأطلقوه على الأجانب، وبالتحديد الخارجين عن طاعة الإمبراطورية الرومانية والنابذين لأفكارها الاستبدادية والرافضين لنفوذها العسكري. وبما أن الأمازيغ كما يشهد تاريخهم القديم تمردوا على الحكم الروماني العاتي، ورفضوا تمام الرفض وبكل الوسائل المادية والمعنوية سيادته، فقد نعتوا من قبله ب(Barbari)! أشار المؤرخ شارل أندري جوليان في كتابه تاريخ أفريقيا الشمالية "إلى أن البربر لم يطلقوا على أنفسهم هذا الاسم، بل أخذوه من دون أن يروموا استعماله عن الرومان الذين كانوا يعتبرونهم أجانب عن حضارتهم، وينعتونهم بالهمج، ومنه استعمل العرب كلمة بر ابر وبرابرة."
هكذا يمكن اعتبار هذا الدليل الذي يفسر به هذا المؤرخ الكيفية التي تم بها إلصاق هذا المصطلح بسكان الشمال الأفريقي الذين كانوا يسمون الأمازيغ، خير شاهد على براءتهم من الشحنة المعنوية الرديئة والغثة، التي تنتقص من شأن شخصيتهم وقدر ثقافتهم، وقيمة الحضارة التي شيدوها في بلاد شمال أفريقيا المتاخمة لحوض البحر الأبيض المتوسط وجزء من المحيط الأطلنطي. اعتبارا بأن هذا الكلام إنما هو صادر ليس عن أديب يخمن أكثر مما يعلل، أو عن سياسي ينساق إزاء سراب الأيديولوجيا فيجادل أكثر مما يوضح، وإنما عن دارس للتاريخ يستند إلى الشواهد التاريخية والأثرية، فيعمل فيها أدوات البحث من مقارنة وتمحيص وضبط زمني وجغرافي وغير ذلك. ثم إن هذا المؤرخ يذهب إلى حد بعيد في إنصافه لهؤلاء الناس، الذين ظلمتهم الدولة الرومانية ومن والاها من مؤرخي البلاط وكتبة التاريخ الرسمي، فرغم أن شارل أندري جوليان ينحدر من الربوع التي نشأت فيها تلك الإمبراطورية وسادت، فإنه توخى الموضوعية والعلمية في كتاباته التاريخية، فكانت ثمرة ذلك هو كشف النقاب عن حقيقة البربر الذين لم يكونوا بربرا إلا من حيث التسمية.
الذات المفكرة والتراث بين الهويّة التراثية و الهوية الكونية - مروة كريدية

هذه الطروحات تناولت القضايا الجوهرية الأساسية في محددات الجماعات والأفراد ولعل من أهم هذه القضايا ما يتعلق ب "الهوية " و"التجذر التاريخي" و"التراث" والعمق الحضاري، وكل ما اتصل بهذه الموضوعات ومصطلحاتها المنبثقة عنها كالأصالة والخصوصية والانفصال عن الدخيل والأمة والوحدة والكونية.....
بدون شكّ فإنّ هذا التوجه يلهب مشاعر الفرد العربي بشكل عام، ويؤجج إحساسه، الذي يستشعر من خلال مفهوم "الأمة" المتخيّلة في ذهنه، وعقليته ويرى فيه صورة "البطل " و"القائد " هذه الصورة المتخيلة ترضي "نرجسية الأمة " وتثري "الأنا العربي".
والذي يُراجع التاريخ يكتشف دون جهد أن الأمم والشعوب تزداد انشغالاً بتاريخها وماضيها حين يكون حاضرها مأزوماً و مؤشرات أسهمها الحضارية في هبوط، وهذا قد أشار إليه الكثير من مفكري العصر الحالي والفلاسفة عبر التاريخ ولا يحتاج إلى الأدلة والبراهين للتدليل عليه.
فالأزمات الكبرى التي تطال "أنا" الإنسان الحاضر تدفع به آليًّا إلى البحث عن "الأنا" الماضي عبر الغوص والبحث عن مسوغات تاريخية تعيد لذاته المتصدّعة اعتبارها من جديد عبر اجترار الماضي "المجيد"، لذلك فإن الخطاب العربي بعد 1967 شهد انشغالا واسعًا وعميقا بالإرث الفكري والعقدي.
وقد طرحت هذه القضايا والموضوعات بعمق أحيانا في ظل تشابك قوي بين عناصرها في مواجهة ما كان يسمى ـ بالغرب ـ وكانت أشبه ما تكون بردّة فعل عكسية لذات متصدعة تخشى على كينونتها وصيرورتها تريد مواجهة «الآخر» خوفا على «الأنا»، باحثة عن معززات «الذات» ناعتة «الآخر» بأوصاف شتى مصوّرة أفعاله بكافة المصطلحات التي راجت و منها "الغزو الفكري والثقافي" و«تارة» الهجوم الإعلامي وتارة "الحرب النفسية" وتارة ب "العولمة"، طارحة مصطلحات مقابلة كالأصالة والهوية والخصوصية، وكانت الأوليات الدفاعية في معظم الأحيان تأخذ بُعدًا نضاليًّا وجهاديًّا، وبدأ المفكرون سيمَا الإسلاميون منهم باستجلاب التاريخ النضالي، واستنفار المخزون العقدي الذي يُؤصل ل"الجهاد " ومفاهيمه و"النضال" ورموزه، وطُرحت قضايا "دار الحرب" و"دار الإسلام" من جديد ...... وبات يُصَوّر للشعوب أن هناك "مؤامرة " مدبرة يحيكها هذا الآخر.