تراودني أفكار غريبة، قريبة من الجنون، تنتهك اصوليات المنطق، وتهتك ستر الأشياء، كالطموحات الممزوجة بتوتر وغليان لا يهدآن، يقال أحيانا بان المس ينقل الانسان الى اقصى درجات الادراك والعمق، بعكس ما هو سائد في المفهوم المرعب للشعور المستتر خلف الخوف من الغريب والمستهجن، او بصورة اصح، خلف المستبد القاتل بسادية تمتزج بها النرجسية.
مثلا، فكرت ذات مرة ان أحمل جسدي لأضعه على ناصية شارع مهجور غير مطروق، واتركه هناك انتظارا لمار او طارق، ربما عام، وربما مئة مليون عام، وكان علي ان اخضع روحي ومشاعري للبقاء في حالة يقظة مستمرة دون الشعور بالإعياء او الوهن والوسن، ولان طبيعة الجسد مرتبطة بالروح، شعرت بغصة وانفصام هائل اودى بذاتي الى معتقل الواقع والعجز، مرضت مرضا شديدا، وبكيت، اُرهقت كثيرا، وفجأة، شعرت بثقل هائل، قلت: أستطيع أن أحقق كل ما صبوت اليه، ليس فقط لمئة مليون عام، الى أزمان يعجز العقل عن إحصائها، كل ما علي الانخراط بالجنون الأعمى والحلم المسحوب من مساحات الزمن.

   صدر للشّاعر طارق النّاصري ديوانٌ بعنوان "نصوص الحافّة" و قد وزّع قصائده وفقاً لمحاور وسمها بالحواف وهي ستٌّ : حافّة الماء ، حافّة الشّرق ، حافّة الحجر ، حافّة القمر ،حافّة الطّين ، حافّة الرّيح ثمّ ختم بما سمّاه "قصائد صغيرة" .  و صورة الدّيوان تشكيلٌ لهيئةِ إنسانٍ  قُدّ من حجرٍ و يبدو في خريف العمر  عاريَ المنكبيْن يحملُ حجراً باليُسرى و لا يزالُ يتوكّأ على عصاه باليُمنى بعد أن قُصف الظّهرُ نصفيْن فبقيَ كما يُقال "على الحافّة" أي على وشك السّقوط و ستسلّمنا هذه العتبة النصيّة إلى العنوان فهو من صنف العناوين التّعينيّة على الأقلّ في جزئه الأوّل "نصوص" أي يُحدّد هُويّته اللاّأجناسيّة[1] ضمن حرم الشّعر و الأدب ، فمتنُ الدّيوان لم يصنّفه الشاّعر ضمن القصائد مثلا و إنّما اختار له تعينيّاً ينتقض عن كلّ احتواء أجناسي ، فنحن نقرأ سديماً من نصوصٍ بلا انتماء منفلتة عن كلّ أشكال التّدجين الأجناسي ، متمرّدة و في صراع حتّى مع نظام الشّعر ذاته (نسف البنية الإيقاعيّة التقليديّة للشّعر العربي).

صدرت الرّواية عن دار الانتشار العربي ببيروت و يُمثّل العنوان عتبة نصيّة أوليّة بإمكانها أن ترسم عَقدا قرائيّا[1] مخصوصا و توجّه ذائقة القارئ و تستثير أفق انتظاره : فهل نحن بصدد رواية ذهنيّة عبثيّة أم رواية خياليّة ؟ فالعنوان كنصّ شديد التّركيز و الاختصار و  كمفتاحٍ أوليّ للتعامل مع متن الرواية يضطلع ببُعدٍ إغرائيّ [2] إذْ يدفع المتلقّي إلى مُساءلة النصّ و استباق دلالاته تصريحاً و تلميحاً . كما أنّ البنية التركيبيّة للعنوان تضعنا في بعضٍ من اللّبس على المستوى النّحوي في تأويل علاقة الإضافة : هل أنّ "الكورفيدا" كفصيلة من الغربان[3] هي الفاعل المُتذكّر  أم موضوع الذّكرى ؟ و يدفعنا العنوان في مستوى تأويل إيحاءاته و رموزه إلى مزيد من الأسئلة ، خاصّة إذا استحضرنا الدّلالات الحافّة بالغُراب في الموروث العربي و الإنساني ، فهو طائر الشّيطان[4] وهو نذيرُ الشّؤم و الفراق و الموت و مُجهض مشروع البطل وهو الواقف على حافّة القبور و الخرائب و الفضاءات المُعتّمة ، وهو  خائنُ الوصيّة في قصّة نوح الّذي أرسله ليتفحّص أحوال الطّقس و الطّوفان فأخبره بالحقيقة لكنّه لم يعُد إلى السّفينة فعوقب بالسّواد و أكل الجيفة على فعلته و عاقبه أبولو على نقل رسالة الخيانة الزّوجيّة فصيّر لونه الأبيض سواداً . و لكنّ الغراب أيضا هو طائرٌ نبويٌّ وهو الرّسول القادم من الغيب في حكاية إله الجحيم بلوتون في الأساطير الرومانيّة وهو الوسيط بين البشر و الالهة بيد أنّه كذلك رمز كاتم الأسرار و حفظ ذاكرة العالم القديم و القدرة على إدراك الحكمة و الألغاز  و هو رمز الذّاكرة الحزينة الأبديّة في كثير من الأعمال الأدبيّة العالميّة. 

    من حافّة الدّنيا إلى نهايتها أطلّت رشيدة الشارني على عُمق الوجود و عذابات الحياة و انتهت الإطلالة بلحظة خشوع و تراتيل أشبه بالصّدى و الصرخة المتبقيّة ألماً و احتفاءً بمن مضى إلى الأبد . بين أسرار البدايات في "الحياة على حافة الدّنيا" و رعب النهايات في رواية "تراتيل لآلامها "مسافة في الزمان و المكان و التّجربة ، دورة في تبدّل الأحوال تشبه دورة العمر  و الوجود . تتطلّع العين إلى جبال الكاف العالية     و ترنو إلى مجاوزة التخوم و اكتشاف الأسرار  ثمّ ينزل طفلٌ إلى الدّنيا بقدرة قادر  ، من هذه الحكاية البسيطة ننتهي إلى قبرٍ  مهجورٍ بين نخلة و سنديانةٍ في مكان قصيٍّ من مقبرة الجلاّز . و بين شوق البدايات و رُعب النهايات تخطّت السّاردة الحافّة و تشكّلت الدّنيا و لكن هذه المرّة في شخصيّة "دنيا" فتاة في عنفوان العمر  مثقفة تحبّ الرقص و الغناء و الكتابة  و معها تشكّلت رواية رشيدة الشّارني .

الخلاصة: إشكالية التكوين والتعبير في قصائد عز الدين المناصرة لا تتكشّف بمعزل عن وعي عاطفيّ حادّ يدرك متانة العصب الوجدانيّ والروحيّ، الذي يتكشف عن خيارات أسلوبية فريدة تحقن رذاذ اللغة الكثيف والفاعل بطاقة تشكيل تتجسّد حيواتها في مرايا الصور. وإذا ما تدخلنا في تفوّهات الشاعر ورؤاه لعرفنا بعضاً من اسرار لعبة الكتابة الشعرية لديه، إذ يرى لحظة الإبداع فيها تعبيراً عن الجوهر العميق لما يحسّ ويرى ويلمس ويتأمل ويحلم. إنّ الشعر عنده في ظلّ هذا الفهم والإحساس المشترك هو معطى ثقافيّ جماليّ بالدرجة الأساس لأن اللغة الداخلة في نسيج النصّ الشعريّ والمؤلفة لأبرز خصائصه الأسلوبية تكتسب قوّتها التعبيرية الفريدة، من حيث كونها لغة تعبيرية وتشكيلية وتصويرية نابعة من صميم التجربة وجوهرها وحرارتها ودفقها، ذات وهج ثقافيّ كامن في جذورها وحاضناتها وطبقاتها، على النحو الذي يستجيب فيه الشعريّ للثقافيّ والمعرفيّ داخل نطاق خطاب اللغة.

قراءة في العنوان
انتبهت الدراسات الإنشائية إلى العنوان الذي لم يحظ باهتمام الدارسين إلا حديثا مع تطور الدراسات اللسانية والسيميائية والتفطن إلى الوظيفة الأساسية والحاسمة له . فلم تكن للعنونة الأهمية التي تحظى بها اليوم  . وكان من العناصر المهملة والغائبة .فغابت ظاهرة العنونة في القصائد الجاهلية بل كانت تتلقفها الألسن والأسماع عن طريق الرواية الشفوية .  ومع ظهور الكتابة أصبح للعنوان قيمة أساسية وأصبح علما مستقلا بنفسه له مختصُوه ومجالاته . فنشأ علم العنونة ) (Titrologie) وأصبح اختصاص يوسم به صاحبه أسوة باختصاصات الطب والهندسة (ـ " (Titrlogue  ليتجاوز العنوان مجرد التعيين والتسمية   "  فالعنوان يعتبر معيارا بصريا إجرائيا في تحديد المقاطعِ النصية والفقرات الخطابية ، ويعتبر أيضا آلية دلالية مهمة في تقطيع النصوص ، لأنّ العنوان هو مفتاح القراءة ،وأسُّ بناء المعنى والدّلالة ، وضمن هذا السياق. يمكن الحديث عن العنوان الأساسي والعنوان الفرعي والعنوان المقطعي. ويعد العنوان في الحقيقة مؤشّرا دلاليا مهما،ومكوّنا بنيويا وظيفيا، وعنصرا سيميائيا بارزا في عملية تقسيم النص إلى مقاطع دلالية و تيماتيكية " [1].رغم أن السارد في نص المتن لم يقسم أثره إلى عناوين فرعية أو أرقام و إنما بدا  السرد منسابا ومسترسلا لا يوقف هديره واندفاعاتِه غير لحظة توقُف القراءة .فلا أقسام ولا فصول ولا ترقيم.

 

عندما تكون الـ ( أنا ) الواعية مسخّرة لـ ( أنا ) الثاقبة في معدلات الأيام، فتستجيب الذات لها، لأنها الـ ( أنا ) السلمانية الفريدة وعبر نصّها الذي يقودنا إلى أبعاد مزدحمة بآلام جماعية، وهي آلام بغداد – العراق.. ومن هنا اتقنت الذات وتشبّعت بآلام أهل البلاد فطافت تلك الآلام وخرجت من صندوقها المقفل، لتعلن اصطفافها إلى جانب الترويض النفسي.. ياترى هل هي العين المحدّقة، أم الدبابيس الموجعة والتي تهاجم الفرد العراقي كغزوة جماعية تطالب بأوجاعها المثيرة ؟؟
في انتظار باص خارج الخدمة : هكذا رسم العنونة الشاعر العراقي المبدع سلمان داود محمد، وهو يقودنا برحلة من الأوجاع اليومية مع هذا الباص المعزول عن خدمته .. وعندما نتلو إفادتنا عن باص كحالة محدّقة بشكلها اليومي، فهذا يعني أننا أمام ظهور واختفاء، فالظهور من الفعل الانتقالي ( ظهر) وهو الفعل الملائم تماما مع ظهور الباص والإيمان المطلق بتواجده بشكل يومي، وكأننا أمام باص مدجج بزحمة الناس حتى يفيض لنا بتلك الآلام التي زرعها الشاعر العراقي سلمان داود محمد، ولو تخطينا عبر حالته ومع سيميوطيقيا العنونة، فسوف نلاحظ بأن العنونة المرسومة تدلّ على حالة لها علاقة بجسد النصّ الشعري؛ وهذا يترتب أمامنا الإشارة والدلالة، فالقصدية والترتيب، دلالتان مكتومتان في العنونة، مما تقودنا إلى : متلق، وعنونة وعمل، فعلاقة المتلقي هنا المرسَل إليه، بينما علاقة العمل والعنونة، علاقة المرسِل، فيظهر أمامنا المرسِل والمرسَل إليه من خلال العمل ( الرسالة ).. من الطبيعي دلالة أية مرسلة تبررها العلامة، والعلامة التي تحملها العنونة علامة تامة، وذلك لاستقلال العنونة من جهة، ودلالتها المكتومة من جهة أخرى، وهنا يمنحنا الشاعر الفرصة والمساحة الواسعة للدخول إلى نصّه المرسوم.. فتضيف لنا القيمة السيميوطيقية للعمل للعلامة كوسيط، وهذه القيمة المضافة هي " المدلول " مدلول العنوان طبعا، فبقي البحث عن الدال لكي تجتمع الدلالة معهما؛ وهذا يعني أن الوسيط نمنحه الدال، فيصبح لنا دال الوسيط ودال العمل، مع مدلول العنونة.. فالعنوان الذي دخلنا به يحمل :

يعتبر أدب “الهايكو” نوعاً من أنواع الشعر الياباني. وهو عبارة عن بيت شعر واحد، مكون من سبعة عشر مقطعا صوتياً باليابانية، ويكتب عادة في ثلاثة أسطر وأحياناً يتجاوز ذلك إلى خمسة أسطر , يحاول الشاعر “الهايكست” من خلال مفردات قليلة؛ التعبير عن مشاعر جياشة وأحاسيس عميقة تحقق عنصر المفاجأة للمتلقي. ازدهر هذا الأدب في القرن 17 بفضل الشاعر المعلّم “ماتسو باتشو” وتلاه “يوسا بوسون” ثم “كوباياشي إيسا” وكثر غيرهما (نتوقف لاحقاً مع نماذج الهايكو لديهم). بينما في القرنين التاسع عشر والعشرين بدأ “الهايكو” يتجاوز حدود اليابان ليصل إلى أميركا ودول الغرب. فترجموه ومن ثم تمّت محاكاته وكتابته وتطويره للاستغناء عن عدد المقاطع الصوتية اليابانية التي قد لا تتجانس مع باقي اللغات والصوتيات في العالم. ثم بعد العديد من الترجمات لهذا الأدب الياباني، سواء إلى الإنجليزية أو الفرنسية أو اللاتينية. وصل “الهايكو” في منتصف القرن العشرين إلى البلاد العربية عن طريق ترجمة نصوص منه إلى اللغة العربية.