chawi.jpgتقديم:
صدرت رواية "كائنات من غبار" للكاتب المغربي هشام بن الشاوي، عن "مطابع الأنوار المغاربية"، وهي العمل الثالث للكاتب بعد مجموعتين قصصيتين: "روتانا سينما... وهلوسات أخرى"، و"بيت لا تفتح نوافذه". تبلغ صفحات الرواية حوالي مائة وعشرين صفحة، موزعة إلى عشرة فصول، وعلى ظهر الغلاف كلمة للكاتب المصري "منتصر القفاش"، تلخص مناخ الرواية، بعوالمه المتقاطعة بين عالم افتراضي، وعالم واقعي، يتناول تفاصيل من الحياة اليومية، ترصد حياة الشخوص في رغباتها وأحلامها وعذاباتها، كاشفة عن صور متعددة للمرأة.
     
العنوان والمتن الروائي:

يحيل العنوان، في المستوى الأول إلى هوية الشخوص، وهم عمّال بناء مرتبطون بالأرض والتراب والإسمنت والكدح. في المستوى الثاني، يحيل إلى فكرة الخلق، متناصًا مع علامات تراثية، دينية وأسطورية، كصورة التجدد والانبعاث. يتعزز هذا المنظور ببحث الشخوص عن فرص للحياة في تفاصيلها وبساطتها. يتمثل ذلك أساسًا في التعلق العاطفي والبوح، والبحث عن تحقيق الرغبات، بتحدي كل الحواجز والموانع. في هذا الإطار، يبدو عالم المرأة هو البوابة التي تنفتح على شساعة الحياة المأمولة، وهو عالم مليء بالأسرار، واعد بالمتع والدفء الوجداني والعاطفي، من خلاله تبحث الشخوص عن تحقيق ذواتها. لكن هذا العالم، من جهة أخرى، مهدد بالعذابات والمخاطرة واقتراف المحرم، وهو يتطلب معرفة خاصة بفك شفراته، ووعيه في سياقه الاجتماعي والإنساني. تبحث الشخوص في الرواية عن تجدد دائم، ومجابهة لما تتعرض له من إفقار عاطفي، وسط حياة الكدح والتهميش والرتابة، من خلال أحلام ورؤى وممارسات يومية تنفلت من رقابة الرسمي (يطلق العمال على بعضهم ألقابًا: بعية، كبالا، قبقب، عبيقة...). يخلقون متعًا يومية صغيرة: أغانٍ، مقالب، نكات، سهرات... وتكون المرأة هي المركز الجاذب، بجمالها، وإغراءاتها الجسدية، وأسرارها، وسخائها العاطفي.

الزمن النفسي وكرونولوجيا السرد:

سرعان ما يتبدد تتابع السرد في وضعيات أفقية، أهمها الاسترجاع. نلاحظ ذلك منذ بداية الرواية: "والحافلة تمخر عباب الإسفلت.. تنتبه إلى أن تلك الفتاة المحجبة تشبه امرأة سكنتك ذات شقاء.. كانت أجمل ما أبصرت عيناك يومها..."، ثم يستدير السرد للحديث عن امرأة أخرى، كان البطل يطاردها "بكل الضعف الإنساني الذي يختزله الحب اليائس. ص5". هنا يفتح السرد نافذة صغيرة على أحداث ومواقف مرتبطة بالسياق ذاته، وهي لا تستغرق إلا حيزًا صغيرًا. هذا الامتداد الأفقي الاسترجاعي، ينتهي إلى خلاصة وحكم، يكون سببًا لبعث تداعيات أخرى، على سبيل الاختبار والنقد :" لاتستغرب، حتى مشاعر النساء تتبخر، كتلك التي كتبت إليك في بداية غرقكما العاطفي... ص4".

 نستنتج من هذه العينة من الشواهد أن السرد لا يجد سنده (الوجودي) إلا في هذا التداعي، وليس في تسلسل الأحداث، بالصيغة المألوفة. إن المقصود إذًا هو كينونة الشخصية/ البطل، وهو يبحث عن تأسيس وعي بالذات والآخر/ المرأة والمجتمع. يغدو السرد سيرورة للوعي، يشق طريقًا وعرًا، يقتضي اقتحام المسكوت عنه والمكبوت والطابو. إنه الدفع بمغامرة الوعي إلى حدود فضح الرغبات المحرمة، والكشف عن النزوات الإنسانية المتسترة تحت أقنعة الاتزان والاستقامة.. هكذا تصبح سطرية السرد وجهًا آخر لهذه الحياة المقنعة، يبرع السارد في الكشف عن مكامن هشاشتها "صديقك الكهل.. أوهمك بأنه بطل من أبطال الميلودراما الهندية... فكرت في ما يقال عنه، وهو يسلم راتبه الشهري لزوجته... ص4).

يبحث السرد إذًا عن سيولة الحياة، التي تغذيها الرغبات الإنسانية الخفية والظاهرة، وراء الصلابة الخادعة لقيم ومسلكيات الواجهة. هذه السيرورة الباطنية النفسية، هي أيضًا معارضة لمطلب فني، يتمثل في سيولة السرد الخطية، وكأن هذه الخاصية مهددة بالكبت ومجاراة الوجه الخادع المطمئن، وبما أن القدر الخطي هو قدر اللغة، يعمل السرد من حين لآخر على انتهاك "نبلها"، بلغة يومية دارجة دون تهذيب أو تجميل :"صرخ بعية في هياج: أححححااااحححح ص43/ وابااااغي اللحم م م م ص76/ راه كايبات يتشارجا في الليل ص38".

السرد بضمير المخاطب والغائب:

 يستغرق السرد بضمير المخاطب الصفحات العشرين الأولى من الرواية. هذه الصيغة غير معتادة كثيرًا في سرد بنفس طويل. في هذا النص، يمكن اعتبارها استراتيجية مركبة: أولا : لردم الهوة بين الذات (السارد) والموضوع، على مستوى الزمان والمكان و(المعرفة). ثانيًا : إنتاج سرد محايث، ولا يتورط في ملابسات (السيرة الذاتية). ثالثًا : اعتبار هذه الشحنة الأولية رصيدًا مرجعيًا يملأ مسافة الغياب في السرد بضمير الغائب، الذي يبدأ عمليًا من الفصل الثالث. رابعًا: تعزيز لازمنية الرواية، بخلق بعد تراكمي. خامسًا: الذات من منظور نقدي، متعددة ومتناقضة، ولا تؤخذ كبُعد  واحد.

الغياب والحضور:العالم الافتراضي والعالم الواقعي:

تنبش الرواية في مواقف وأحداث تكشف عن تدفق الرغبات، وكسرها للحواجز الأخلاقية و(الثقافية)، وهو اختيار سردي يندرج ضمن رؤية للإنسان، في تعدده وتناقضه، ومهمة الرواية هي التنبيه إلى هذه الأبعاد السيكولوجية المكبوتة والمسكوت عنها، لتحريرها ووعيها. نلمس ذلك في بعض لحظات الصراع بين الرغبة والعقل:  " ودّ لو يعتذر عن كل ما دار في عقله الباطن/ تبًّا لهذا الجسد الذي يجرنا دومًا إلى الخطايا/ يهتف قلبك: ما أغرب الطبيعة الإنسانية/ تخيل نفسك مكان ابنها أيها الحيوان...".

هذا العالم "الغائب" أو "المغيب" من الرغبات الإنسانية، يفتح له السرد قنوات للتوصيل والإظهار، تمامًا مثلما يفتح البطل قنوات للتواصل، عبر الشات والهاتف، مع عشيقات في العالم الافتراضي. إن الذي يجمع بين العالمين، هو أن كليهما "غائب"، لكنه موجود، يتحكم في اختيارات الشخوص ومواقفهم.

التعدد اللغوي:

 تتعدد لغات الرواية، وتتجاور لتعطي أبعادًا جديدة للمعنى، وهكذا تتعايش الفصحى والدارجة اليومية، ولغة الأمثال والنكتة، وألقاب الشخوص، وأسماء الأشياء وبعض الأفعال الخاصة بفئة البنائين، كل ذلك إلى جانب لغة الرسائل الالكترونية والشات ورسائل الهاتف.

وهذا الخطاب الالكتروني أخذ يغزو الرواية في السنوات الأخيرة، بخصائصه التواصلية، سواء كخطاب يتسم بالسرعة والاقتصاد، أو كعلاقات إنسانية تبحث عن حرارة المشاعر ودفء الأحاسيس، وحرية الكلام والبوح، مكملا أو معوضًا  للعالم الواقعي.

خاتمة:

 تدخل هذه الرواية ضمن المشروع السردي للكاتب المغربي هشام بن الشاوي، وهو مشروع يتميز بالتقاط تفاصيل حياة المهمشين، في طموحهم للعيش والحياة، كما يتميز بالكشف عن تناقضات الإنسان بين الظاهر والخفي الذي تحركه الرغبات، مما يشكل عوالم سرية، مكبوتة ومسكوت عنها، ويتواصل في هذه الرواية ذلك العمل على تكسير سطرية السرد، بفتح مساحات واسعة من البوح والتعبير عن المشاعر والأحاسيس الدفينة، حتى ليغدو التتابع، في كثير من الأحيان هو الاستثناء.


------------------------------------------------------------------------------

  - "كائنات من غبار"، هشام بن الشاوي، مطابع الأنوار المغاربية/وجدة، ط.1، 2010.
* قاص وروائي مغربي

music.pngإن جميع التحسينات التي أصابتها الموسيقا خلال تطورها لم يكن الدافع إليها إلا الرغبة في التقدم بهذا الفن، ومضاعفة المتعة منه. ولهذا فعلى المستمع عند وقوعه تحت تأثير الموسيقا أن يكون واسع الأفق ساعياً إلى اكتساب القدرة على الاستماع. فالموسيقا هي الحركة في الزمن، وتعتبر لغة النغم، وأية لغة لابد من أن يكون لها حروف هجائية وقواعد منطقية تساعد على استخدامها وفهمها، حروف الموسيقا الهجائية هي (دو-ري-مي-فا-صول-لا-سي) والكونترابونط Counterpointعلم بناء التآلفات المتعددة على أساس من الانسجام في لحن واحد- وما عدا ذلك من فروع هي بمثابة البديع والبيان.
وأنغام الموسيقا هي عبارات لحنية لها من المعنى ما لكلمات اللغات المنطوقة أو المكتوبة من دلالات مع فارق أن فهم لغة الموسيقا من نصيب الوجدان ويؤكد هذا القول الفيلسوف شوبنهاور عندما قال (الموسيقى لغة الشعور والكلام لغة العقل). وهنا يأتي دور التذوق الموسيقي وما يحمل من معاني خفية تلعب دوراً بارزاً في نفسية وفكر وكيان المستمع والمتذوق للموسيقا، وماذا يخفي في مكنونه العميق من الثقافة والنفسية حتى الفكرية بالنسبة للإنسان، وهذا ما أردنا أن نسلط الضوء عليه في هذا الموضوع.
التذوق الموسيقي Musical Appreciation:
يمكن أن نعرف التذوق بصفة عامة بأنه إعطاء قيمة وتقدير للشيء، أما التذوق الموسيقي فإنه الحساسية للقيمة لجمالية الموسيقا. والإحساس الجمالي لا بد وأن يتضمن الاستمتاع والمعرفة.

105.jpgالكاتب : محمد صالح مجيد
المدخل نظريّ     
ما من نصّ أدبيّ -شعرا كان أم نثرا ،أو مابين هذا وذاك- إلّا وهو يُجاور آخر ويُحاوره  ليتجاوزه.على هذا النحو فهمت عديد النظريات والبحوث الحديثة في النقد الأدبيّ تشكّل النصوص الأدبيّة وتضافرها، فخاضت في تلمّس إنتاجيّة النّصّ الأدبيّ[1].ولم يعد الاشتغال على "التناصّ" –اليوم-جدّة في القول أو خوضا في حقل غير موطوء.فمنذ أن تحدّث" باختين" عن تعدّد الأصوات(polyphonie) في النصّ الأدبيّ ،و عن "الحواريّة"( dialogisme) أمسى البحث فيما بين النصوص من تداخل وتجاور مندرجا في صلب كلّ عمليّة نقديّة تروم تفكيك البنى المعجميّة والخطابيّة المنتجة للأثر ،وترنو إلى تلمّس آليات تكوّنه حتّى استوى خطابا يستهدف متلقّيا. يقول "باختين"(bakhtine) إقرارا لبديهة "نِصف الأقوال على الأقلّ في الكلام اليوميّ الذي يتلفّظه كلّ إنسان يعيش في مجتمع، هي لغيره "[2]

 ولم يعد استجلاء ما بين نصوص سابقة وأخرى لاحقة  ناسخة من الرّوابط والعلائق ضربا من ضروب محاكمة الكاتب ، وتهجين مُنجَزه الإبداعي بشُبهة النّهل من السابقين أو السّير على منوالهم. فقد انتهى زمن كانت تُعقد فيه لنصوص ضُبطت متلبّسة بالأخذ و"السرقة" مُحاكمات انضافت إلى سيف الرقابة المسلّط على الكتاّب لتخنق المبدع ،وتلزمه بما لا يطيق.إذ كيف الفرار من صدى "القراءة" وقد ترسّخ تأثيرها وفعلها في ذات الكاتب حتّى أمست بعضا منه ،وموردا يرتاده للارتواء من "عطش" الكتابة؟

والحاصل من كلّ هذا أنّ بعض النقّاد العرب القدامى ،في تهجينهم للتّناص ،أيّا كان نوعه، وبحثهم في "سرقات" المتنبّي وغيره من الشعراء ،كانوا يصدرون عن نظام معرفيّ معياريّ.أمّا ما بنت عليه الناقدة والروائيّة الفرنسيّة ذات الأصول البلغاريّة"جوليا كريستيفا" (Julia kristiva)نظريتها النقديّة فينخرط في نظام معرفيّ وصفيّ يعتبر هذه الظاهرة أمرا حتميّا لا يمكن أن يسلم منه كاتب أو شاعر-وإن حرص- إذ أنّ كلّ نصّ-على حدّ قولها- هو بالضرورة "ينبني كفسيفساء من الاستشهادات,,إنّه امتصاص وتحويلtransformation لنصّ آخر"[3]

anfasse.org"بسم الله الرحمن الرحيم. ن. والقلم وما يسطرون."
ثمة موجة من الكتابات النقدية أجهزت بكل ثقلها على اللغة العربية معتبرة إياها إحدى القلاع الحصينة التي تحتمي بداخلها الإيديولوجيا الأبيسية (1). ولا مراء أنها كتابات تستمد قوتها من النفس التحرري الذي يسري في أوردة القول الحداثي، ملهبا ذلك الحماس الثائر الداعي إلى تفكيك خطاب الوحدة والأصل، بتفجير كل تناقضاته وإحالته على الصمت. إنها كتابات تفرض حضورها بكل قوة وتتميز باستعمالها للغة مدججة تتمترس خلفها طموحات إيديولوجية تنزع نحو أكثر المواقع راديكالية وتتوق إلى تحرير الهوامش الأنثوية المكبوتة داخل النسق الأبيسي الكلياني وفتح كوة على خطاب الاختلاف: خطاب الحرية والمساواة.
         على أن خطورة تلك الكتابات تكمن في كونها تمارس النقد أساسا كفعل تفكيكي تهتز له أركان الخطاب الأبيسي، يهوي له سقفه الحديدي وتتزلزل الأرضية التي شيد صرحه فوقها بثقة واطمئنان كبيرين. فالتفكيك هنا ضرب في صميم العمق الاستراتيجي للخطاب الأبيسي: ذلك العمق الذي ينتهي قراره عند أرضية صلبة هي أرضية اللسان العربي. فهذا الأخير يبقى بمثابة الرأسمال الدلالي الذي يستثمره ذلك الخطاب في إنتاج مضامينه وإعادة إنتاجها وفق شروط تاريخيته. بعبارة أخرى، إن الخطاب الأبيسي لا يتمخض  عن فراغ، وإنما ينطلق من اللغة العربية كخلفية رمزية تمنحه العمق التاريخي والدلالي الذي يرغب في اكتسابهما.
         تلك في عجالة، إحدى الركائز التي يستند عليها خطاب التفكيك ويبلور، بناء عليها، أطروحاته حول اللغة العربية. يبقى أن نتساءل من جهتنا: إلى أي مدى استطاعت الكتابة النقدية تحقيق ادعاءاتها؟ هل نجحت حقا في تفكيك السلطة الأبيسية وخلخلة اللغة العربية التي شكلت الأرضية الرمزية للدائرة الأبوية؟

matlek.jpgيستهل حسن مطلك روايته الماتعة "دابادا" بوصف الخريف،(وهو فصل الكآبة بامتياز، حيث يثير قدومه في النفس شجنا مجهولا، وخوفا مبهما من النهايات)، وهاجر /أم شاهين وهي تلملم الحطب، فتشتعل الذكرى الخريفية التي لا تخبو: ذكرى محمود، الزوج الذي ضاع في البراري بسبب أرنب مبقع، ويصافح القارئ حزنها غير المعلن عنه، الحزن على الابن المنعزل عن الناس، الأبله الذي لم يتجاوز الطفولة، وهو في سن السابعة والعشرين، ولا يمكن أن نغفل الدلالة العميقة لهذا الرقم المقدس دينيا.

 و نبدأ في التعرف على شاهين، وهوايته الوحيدة في غرفته العلوية، وهي التلصص على الصباحات الندية.. يستيقظ قبل الشمس ليرى الطيور، وفجر الحقول يتسلل إلى غرفته.
للتوضيح، الرواية، وكما أكد الكثيرون من الصعب الإلمام بتفاصيلها، حيث أن السارد العليم  يراوغ القارئ عبر رواية تبدو مثل قصة مسترسلة، عكس بقية الروايات التي تتيح للقارئ، محطات استراحة واستجمام  بين الفصول المرقمة أو المعنونة، أما رواية "دابادا"، فتبدو أشبه بسباق ماراثوني، سباق يتحدى فيه حسن مطلك نفسه لاغير، غير معني بمجاراة أو محاكاة ما يكتبه الكتبة أو أصحاب "دكاكين الأدب"- كما كان يدعوهم- من روايات ترمى بعد القراءة الأولى، مثل ورق الكلينكس!!

 kainate.jpgربــط المشــرق بالمغــرب عبــر قصّــة حـبّ
يقدّم الروائيّ المغربي هشام بن الشاوي في روايته «كائنات من غبار» «شركة مطابع الأنوار المغاربية، 120 صفحة من القطع الوسط»، شخصيّات عديدة، منها مفترضة ومنها واقعيّة من لحم ودم، يبثّ فيها الروح من خلال دقّة توصيفه لما يعتمل في دواخلها من حالات متنوّعة، حيث تتمتّع تلك الشخصيّات بمرونة حركيّة حتّى لكأنّها تحاول تلبّس القارئ، وإقناعه بمدى تجذّرها ومثيلاتها في الواقع، ذلك أنّ واقع الرواية لا يبتعد عن واقع الحياة، يأخذ الروائيّ عدّة لقطات ومحطّات من الحياة، ليبدأ بالتفنّن في إضفاء رؤاه عليها.

عبر أساليب عديدة منها السخرية، منها المرارة، منها الألم، منها الإيلام، ولا يبقي القارئ محايداً بل يدخله في قلب اللعبة الروائيّة الدائرة، يُشركه من خلال استخدام ضمير المخاطب في كثير من المقاطع، يوقعه في شِراك الخدع الروائيّة، بحيث يفرض عليه اتّخاذ موقفٍ ممّا يجري، لا عبر الفرض، بل عن طريق تسريب القناعات، المتطرّفة منها، والغريبة، لكن الجريئة في طرحها الروائيّ..

anfasseإن الحديث عن الشاعر المبدع محمد السرغيني كما يقدم لك نفسه في آخر إصداره "وصايا ماموث" لم ينقرض"(1) هو حديث عن الذي طوع الحركة والإيقاع على ركح مسرح شعري أعاد الكرامة إلى العصور الجيولوجية التي كانت تحتفي بالديناصورات والخراتيت والماموثات.
إنه حديث عمن تنسم رائحة التراب والرمل والحصى والوحل الرطب، والساكن في حديقة بيت بعد انبجاس الماء من بئرها، والمبتكر لفاكهة بكر لم تتورط في خطيئة.
إنه حديث عن الذي نسج من شرايينه أسطورته في شكل وصايا لها من الحصافة ما به تحسن استقبال السماد الروحي.
إنه حديث عن الكائن الليلي الذي احترم الأرق كما احترم الحلم، والمتحامل على جذعه وأطرافه، والباحث دوما عن إبرة في متاه رمال.
إنه حديث عن الذي أتقن تصويب العدسة نحو الأفق ليرمم الفضاءات ويعيد تحديد مقاسات الطول والعرض والمدى.
إنه حديث عن الذي روّض اللغة بين الإبهام والإيضاح والصحو والسكر بتقنية عالية من التخييل الرقمي.
إنه حديث عمّن حمل عصاه، والتفّ حول شياهه الضالة.
إنه حديث عن الذي روض النماذج المشبوهة من النهارات والظهيرات والأصائل والعشايا، والذي ميز بين اللون المخصي واللون الفحل.
إنه حديث عمن احترف الرسم بالصيغة الألفبائية. وعمن خبر فجاج الطريق الشائك المبلط، وسار على أحجاره المسنونة التي لا تزال محتفظة بآثار الأقدام العارية، وسنابك الخيول وأخفاف الجمال وزوابع الخريف وعواء ذئاب القطب الجنوبي.
بهذه الملامح التي رسمها لذاته الشاعرة، يعانقك الشاعر المبدع محمد السرغيني وهو يستدرجك لولوج محراب تجربته الشعرية الجديدة كي يتلو عليك وصاياه وينفث مزاميره كي تخطها الرياح على الرمال.

theatre.jpegدراسة مشهد من مسرحية "عطيل والخيل والبارود" لعبد الكريم برشيد
يرجع الأصل اللغوي للمسرح إلى المكان الذي تسرح إليه الماشية، ثم أطلق على منصة المسرح فعلى صالة العرض. ويعتبر المسرح في الاصطلاح، كما عرفه عبد الكريم برشيد، شكلا من أشكال التعبير عن المشاعر والأفكار والأحاسيس البشرية وسيلته في ذلك فني الكلام والحركة بالاستعانة ببعض المؤشرات الأخرى. يتجاور في المسرح العلم والفن والأدب والتفاعل النفسي والاجتماعي، ويلتقي الحاضر والغائب والممكن والمحال؛ يتفق معظم الباحثين في هذا الفن أن المسرح بدأ يونانيا منذ القرن السادس قبل الميلاد مع احتفالات ديونيزوس، وظل هدفه التطهير. ولم يعرف العرب المسرح إلا مع عصر النهضة خصوصا مع مارون النقاش (1847)، لكن المسرح العربي يجد تجلياته وجذوره التراثية في الحلقة والبساط وسلطان الطلبة واحتفالات الشيعة بذكرى مقتل الحسين ثم الحلقات الصوفية ومسرح الدمى وخيال الظل... نذكر من بين رواد المسرح الطيب الصديقي وأحمد الطيب لعلج وعبد الكريم برشيد وتوفيق الحكيم وغيرهم. فما مضمون هذا المشهد المسرحي الموسوم بـ"لعبة الوهم والحقيقة"، وما أبعاده وما خصائصه الفنية؟
يتكون العنوان من جملة مركبة من غير إدماج، لكن بواسطة أداة العطف الواو، فلعبة خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه وهو مضاف والوهم مضاف إليه مجرور، والواو واو العطف والحقيقة معطوف على الوهم، فالوهم هو ما نتوهمه ونتصوره ونتخيله كأن يكون خيالا أو تخييلا، أما الحقيقة فضد الوهم وترتبط بالواقع وما تحدسه الحواس. لقد جمع الكاتب بين نقيضين في العنوان. فما علاقة هذا التناقض بمضمون النص وتفاعل أحداثه؟