abstract-cubeمقدمة:
كان الإنسان الأندلسي شديد التعلق بوطنه، مدافعا عنه ومتعصبا له، لما حققه له من أسباب السعادة ورغد العيش، جعلته يتمثله جنة الخلد كما ورد على لسان ابن خفاجة. فقد عاش الأندلسي في بيئة طبيعية جميلة ورائعة، بكثرة أنهارها وأشجارها ووفرة ثمارها؛ وحقق انتعاشا اقتصاديا انطلاقا من القرن الثالث الهجري، وقدرا غير ضئيل من الاستقرار السياسي خلال القرنين الثالث والرابع... لتظل الأندلس في نظر أهلها جنة لا شبيه لها، إذا فارقها أهلها أحسوا بالاغتراب وشدة الحنين إليها لأنهم يفارقون أجمل ما في الدنيا من رياض وظباء ومجالس غناء وأنس وشراب...
تجليات الظاهرة:
بمرور القرون، بدأ الأندلسي يتأكد أن جنته هذه ما هي إلا واحدة من جنان الدنيا الفانية، وهو يراها تتقلص يوما بعد يوم، وبالأخص في مرحلة ما بعد هزيمة العقاب سنة 609هـ... فعاوده حنين مزدوج قوي: حنين إلى أيام اللذة والمتعة في جنان جزيرته المقدسة، وحنين إلى الحجاز، منطلقه ومنطلق الرسالة التي أوصلته إلى هذه البلاد القصية، "فكأننا نتصور الأندلس في مراحلها الأولى، وقد استغرقها زمن اللهو والطرب والحضارة الباذخة، ثم جاء زمن الندم والتوسل والحنين إلى الديار المقدسة، كأن تلك المراحل الأولى كانت شبابا وهذه الأخيرة شيبا" (1).
لقد برز الحنين كتيمة من أقوى تيمات الشعر الأندلسي التي تستحق التوقف، أما اختيارنا لابن خاتمة فهو محاولة لتتبع الظاهرة خلال القرن الثامن الهجري، على بعد قرن من نهاية الأندلس، حيث تقلصت رقعة الدولة في حدود ما عرف باسم مملكة غرناطة، التي واجهت الأعداء من جهات شتى، وكثرت فيها القلاقل السياسية... لكنها عرفت ازدهارا ثقافيا واسعا، إذ يكفينا أن نذكر أن هذا القرن هو عصر ابن الخطيب وابن خلدون وابن جزي وغيرهم كثير. أما الشاعر ابن خاتمة الأنصاري، فقد كان مقربا من البلاط الغرناطي، لكنه –حسب الباحثة الإسبانية خيبرت صوليداد- لم يأخذ بأدنى حظ من السياسة في تلك الأيام(2)، وقد عاش بين سنتي 770 و770هـ، وعرف في المصادر التاريخية والأدبية بأنه شاعر وناثر ومؤرخ ورياضي وطبيب وكاتب ومقرئ؛ خلف العديد من المؤلفات النثرية إضافة إلى ديوان شعري ضم أربعة أقسام (المدح الإلهي والثناء- النسيب والغزل- الملح والفكاهات- الوصايا والحكم).

youbeفمن حين لآخر يطالعنا بأسلوب المقامة في الاستهلال،حيث إنه ينسب الحكي للراوي وغالبا ما يذكر الكاتب اسم هذا الراوي دون خوف من هذا التصريح (حدثني صديقي عبد الفتاح ذات ليلة...)(حدثنا مصطفى و العهدة عليه)(حدثنا هشام بن عيسى).... لكن القارئ الفطن يشعر وكأن الأبطال يتكلمون وينسجون تفاصيل القصص بلسان الراوي / السارد، ويعبرون عن مشاعره، بل أحيانا نشعر به وهو يغير مجرى حديثهم ليتقمصوا شخصيته، وينظرون إلى العالم من زاويته.
و أسلوب الحكي في هذه المجموعة القصصية واضح المعالم ،يعتمد التقرير والمباشرة المرشوش بنسبة معينة من الترميز  الذي يعطي للقصص ما يسمى "بأدبية العمل الأدبي" ،والكاتب نور الدين محقق يختلف بأسلوبه الذي يتقاطع مع أسلوب المقامة،حينا ويقوم بعملية تكسيره حينا آخر ،  يتمثل لنا ذلك في كون  أن المقامة تنسب الأحداث و الحوار بين الشخصيات لضمير الغائب ، حيث كان الرواة يعتمدونه خوفا من الوقوع في التجريح،والنبش في أعراض الآخرين،بل في كثير من الأحيان يلجؤون إلى التستر وإخفاء علاقات كانت قائمة أبى الرواة الكشف عنها علانية،بل اكتفوا بالتعبير عنها بكل إحساس صادق ، في حين أن الكاتب نور الدين محقق هنا في قصصه يلجأ إلى المزاوجة بين ضميري المتكلم والمخاطب ، متجاوزا من خلال ذلك خطية السرد ، وخالقا دينامية سردية متجددة ، بتعبير الباحث الفرنسي لورون جيني  .
إن الموناليزا ، كما ورد ذلك في قصة " الحمامة المطوقة"  التي وقع في غرامها الشبان الثلاثة وعلى رأسهم السارد نفسه ،عبد الفتاح،  ترمز للصورة النموذج القابع في متخيل كل شاب،إنها رمز المرأة التي تجمع بين ثغر المرأة الباسم إشارة في ذلك إلى الحبيبة، وفم الأم العابس إشارة إلى الأم التي عانت ومازالت تعاني من ويلات ومصائب الحياة.

anfasseمن جديد، يخرج القاص الغزِّي يسري الغول، عن طور الجنون متجهاً إلى رحاب الموت، فينشر مجموعته القصصية الجميلة (قبل الموت، بعد الجنون) ليؤكد بأنه ما زال يكتب ويكتب حتى اللانهاية. فقد صدر من مركز أوغاريت للنشر والترجمة المجموعة الثانية للكاتب والقاص الفلسطيني يسري الغول والتي جاءت في قرابة الـ110 صفحات متوسط القطع، انقسمت المجموعة فيها إلى قسمين رئيسيين، وإن كنت أرى بأن كل قصة هي قسم متوحد في ذاته، فالعوالم والأجواء المتعددة داخل النص تشعر القارئ بمدى عمق الشكل والمضمون لدى الكاتب الغول.
غلاف المجموعة حمل شكلاً سوداوياً ذكرني بأغلفة أفلام الرعب الأفلام التراجيدية الحديثة، إلا أن ما قد يميز الغلاف هو عمق الأشجار التي تحمل في دواخلها روح الحكاية وتضاريسها. فاليوم يعاني الفلسطيني سياسة التدمير والغطرسة التي تمارسها آلة الحرب الإسرائيلية، فلا هي تركت شجرة أو أبقت قبراً كما في قصة الغول (قبر حزين). ولعل القارئ والناقد على حدٍ سواء قد يحملون على الغول سوداوية الحكايات التي تغزو نصوصه، فمجموعته الأولى والتي حملت عنوان (على موتها أغني) أعطت القارئ والناقد انطباعاً عن مدى الألم الذي يجتاح الغول، فهو ابن غزة، التي لم يرحمها أحد. إلا أن ما يميز مجموعته الجديدة هي عمق البنية النصية، بخلاف مجموعته الأولى التي جاء فيها الموت مبالغاً فيه إلى حد ما في بعض القصص كقصة فتاتان برائحة الغربة.

عرف العرب القدامى في دراساتهم مصطلحات عديدة ومتنوعة دالة على مفهوم الخطاب، تقارب مدلوله اللساني المعاصر وقد تقاطعت معه في كثير من المناحي منها الكلام، الكلمة والنص وهو ما يدفعنا إلى تأسيس روابط دلالية تجعلنا نبحث في الحفريات المعرفية والأصول اللغوية الخاصة به في التراث اللغوي العربي.
أ - الخطاب لغة:
مصطلح الخطاب معتمد في تراثنا اللغوي، فقد أبان ابن منظور (ت 711 هـ) عن مفهومه بقوله: الخطاب والمخاطبة مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطابا، وهما يتخاطبان(1)، فقد دل على معنى يخص الكلام، وحيثما ورد مصطلح خطاب في كلام العرب فهو يحيل على هذا المفهوم الكلام، واستمدت دلالته من السياق القرآني، حيث يقول عز وجل "وشددنا ملكه، وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب"(2)، ويقول أيضا: "فقال أكفلنيها، وعزني في الخطاب"(3).

إن المتتبع للشأن الأدبي في المغرب يلاحظ بأن القصة بدأت تزاحم الشعر،بل تتعداه أحيانا، ولهذا يمكن أن نقول ونجزم بأن الزمن المغربي المعاصرهو زمن القصة بامتياز، نظرا لاهتمام النقاد و الأدباء بهذا الجنس الأدبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.
والسبب في اهتمام القراء بالقصة(بكل أشكالها وأنواعها)هو ما تفرضه متطلبات الحياة الثقافية،التي تسير بوتيرة سريعة تفرضها سرعة وتيرة الحياة ومستجداتها،وبذلك تكون القصة هي الجنس الأدبي الممكن و المناسب، الذي يتابع عن قرب هذه المستجدات،وذلك بنقل الواقع وتقديمه في شكل أدبي بين أيدي القراء،كل واحد يقرؤه ويؤوله حسب الأزمنة و الأمكنة وأنواع القراءات.غير أنه ينبغي على القارئ احترام حدود القراءات وحدود التأويلات،لكي لا يسقط في عملية الهدم من أجل الهدم التي تقتل العمل الأدبي.
ونحن في هذه الدراسة المتواضعة سنتطرق إلى عملية التلقي و التأويل ليس على مستوى الدراسات النقدية،ولكن على مستوى الإبداع القصصي ،سنتتبع مستويات تلقي المبدع القاص للنصوص القصصية ابتداء من علاقته بالعالم الخارجي ومحاولة تأويل هذا العالم و نقله للقارئ المتلقي،الذي يتلقاه بطريقته ويحاول إعادة قراءته وتأويله انطلاقا من زاويته ورؤيته لهذا العالم.

amaldonqol

شاعر نحت معجمه الشعري من عصارة ذات محترقة، وجسم نحيل داهمه مرض عضال لم ينفع معه علاج، فما زاده إلى إمعانا في تنديده بغرور السلطة، ونقده للأوضاع التي أدت إلى استشراء الخنوع والمذلة في أوصال هذا العالم العربي الذي انصاع لواقع الخزي والعار. شاعر ذو حساسية مفرطة، شديد الملاحظة، لاذع اللهجة، صريح العبارة، لا يتورع في الغوص إلى القعر ليسبر حال هذه الأمة التي لم تعد تبدو في أفقها المنظور أية بارقة أمل.
إنه شاعر الصدق الذي سدت في وجهه أبواب الأمل وهو الموسوم ب: "أمل" لقبه الذي لم يغنم منه إلى باليأس القاتل، فانبرى ينحت من أعصابه عكازة يسند عليها ما تبقى من هيكله المنخور ليعيد القراءة من جديد، فإذا به يكتشف "موت القمر" لتتردد على مسامعه "بكائيات زرقاء اليمامة"، وهو ما دفعه إلى أن يمتهن "تعليقاته على ما حدث" ويتطلع إلى "عهد آت" لكنه لا يسمع فيه إلى "أقوالا جديدة عن حرب البسوس" لينتهي به المطاف إلى قفص الغرفة الاستشفائية التي استودعها "أوراقه الأخيرة" التي حاور فيها الموت – صديقه الحميم – الذي استسلم له عن طواعية واختيار بعد أن فقد كل أمل. إنه شاعر رسم ملامحه الذاتية، كما رسم قسماته الفيزيولوجية وخصائصه النفسية ورؤاه الذهنية، في كل ما كتب من شعر، فاكشف "انطفاء النار بجوف المدفأة " وضياع عمر "الشباب في الدروب المخطئة " و"سيادة ذكريات الأسى المهترئة".


شاعر عرف المدن الدخانية مقهى مقهى، وشارعا شارعا، وبيتا بيتا، و مصنعا فمصنعا، فما رأى غير "عمال يعتصبون بالمناديل الترابية، يدندنون بالمواويل الحزينة، "وشباب بلا أمل يقطنون كهوف الشجن العميق، وبحارة شباكهم فارغة في بحار الوهم "لا يصطادون سوى أسماك سليمان الخرافية"، ومزارعين في حقول تحاصرها النيران وتأكلها حرائق السماسرة والوسطاء، وسكان المدن لا يقوون إلا على عض لجام الانتظار ومضغ اللقمة المخزية.
هذه بعض من صور الفواجع التي استوقفت الشاعر أمل دنقل – طيلة مسيرته الشعرية وهو يتفرس في الشوارع والحارات، أو ينتقل بين القرى والمدن في هذا الفضاء الجغرافي الممتد من النهر إلى البحر، وهو ما وسم رؤاه الشعرية بنوع من الحزن السوداوي العميق، واليأس السحيق نتيجة شساعة مساحة القفر واليباب، وحجم الفاقة والمهانة الذي لم يعد يطاق، ومن ثم آلى على نفسه إلا أن يعري هذا الواقع، ويحاسب المسؤولين الحقيقيين عليه.
وهو إذ يستقرئ أسباب هذه الأزمة العارمة، يتوغل في خبايا ذاته المتعبة من فرط حساسيتها الزائدة ليقدم للقارئ بورتريها هذه تفاصيله.
1الذات المتعبة من فرط سخطها على الواقع المدان:
يقول أمل دنقل في ديوانه "مقتل القمر:
"كان يا ما كان ..
انه كان فتى
لم يكن يملك إلا.. مبدأه
أ ترى تدرين من كان الفتى؟
فهو يدري الآن
يدري خطأه"
فأي خطإ هذا الذي اقترفه الفتى في صباه؟ ! يجيب الشاعر في المقطع الشعري الموالي:
"أنا مثلك كنت صغيرا
أرفع عيني نحو الشمس كثيرا
لكني منذ هجرت بلادي
والأسواق
تمضغني، وعرفت الأطراف
مثلك منذ هجرت بلادك
وأنا أشتاق
أن أرجع يوما للشمس
أن يورق في جدبي فيضان الأمس" 2
فمتى كان الرنو إلى ضوء الشمس جرما والتطلع إلى مستقبل واعد ينعم فيه الإنسان بحقوق مواطنته جريمة؟ !
إن الشاعر وهو يحدثك عن ذاته يبدو وكأنه اكتشف ما يؤثت الفضاء الجغرافي لهذا الوطن العربي العاقر، فالسيوف انكسرت والخيول كبت، والسواعد بترت والرايات نكست :
"منكسر السيف مغبر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء
.. عن ساعدي المقطوع ... وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة
.. عن وقفتني العزلاء بين السيف .. والجدار!
عن صرخة المرأة بين السبي والفرار؟
كيف حملت العار..
ثم مشيت؟ دون أن أقتل نفسي؟ ! دون أن أنهار؟!
ودون أن يسقط لحمي من غبار التربة المدنسة؟ !"3
لقد ماتت قيم المروءة والشهامة والشرف- المتحققة في الماضي – ليحل محلها الجبن والمذلة والمسكنة، وأضحت المرأة – رمز الشرف – مسبية مستباحة لأن رجل هذا العصر ما عاد غير عنين لا يقوى إلا على غض الطرف والاستكانة للضيم والعار، فأين سيخفي عيوبه، وأين سيداري خجله ؟ وأين سيدفن وجهه المتهم المدان؟
"لا الليل يخفي عورتي .. ولا الجدران
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدها ...
ولا احتمائي في سحائب الدخان!
... فأين أخفي وجهي المتهم المدان؟..
لم يبق إلا الموت.. والحطام... والدمار..." 4
إنها صرخات إدانة لما وشم الذاكرة العربية من خزي وعار وجبن ومسكنة في مطلع العصر الحديث، وصكوك اتهام بالعجز الذي يكبل إرادة الساهرين على أوضاع هذا الوطن العربي الموبوء. لقد انقلبت كل الموازين والأقيسة، وتبدلت كل قيم المجد والشرف والنخوة إلى صور الانصياع والذل والاستكانة، وبذلك انهارت كل القيم الإيجابية المتحققة في الماضي إلى قيم سلبية تخنق أنفاس الشاعر في الحاضر. غير أن حبه لهذا الوطن هو ما يدفعه إلى حمل نعشه على كاهله الصغير رغم اهتراء جسده النحيل، إنه أمله الوحيد يضحي به من أجل هؤلاء الذين يولدون ميتين وهم يناغون وجه الشمس في الحقول :
"لكنني .. أحمل نعش الحب فوق كاهلي الصغير
أمشي به .. لعل هذا الجسد الهامد يوما يسير!
باسم الذين يولودون ميتين
ومن يضاحكون وجه الشمس في الحقول
ومن يقاتلون دون سيف
ومن يضاجعون هذا الخوف،
ينجبون منه كل صيف!" 5
ومن ثم يعلنها صراحة ويبوح بها لأعز ما لديه، طرفه الثاني، وحبيبة عمره، لقد ضاع كل شيء فجأة، وحلت الخسارة، فالوعود استحالت سرابا، والخطى ضلت في دروب مخطئة، ومجد الماضي ما عاد سوى ذكريات من الأسى مهترئة، إنه زمن الليل البهيم الذي ساد في كل الأرجاء:
"لا تفري من يدي مختبئه
.. خبت النار بجوف المدفأة!
.. لولا زمان فجأه
كان في كفي ما ضيعته
في وعود الكلمات المرجأه
"إنما عمرك عمر ضائع من شبابي
في الدروب المخطئه
... ثم لم نحمل من الماضي
سوى ذكريات في الأسى مهترئه
نتعرى بالدجى
إن الدجى للذي ضل مناه
تكئه ! !"6
ومن ثم يخلص الشاعر إلى إعلان عجزه التام لأنه ما عاد قادرا على الالتزام بوعوده العنترية، لقد بانت عورة الأشياء، ولم يبق إلا الاستكانة للضيم، ولذلك يدعو رمز نخوته الماضية بأن تستريح وتتقبل واقع الحال، لقد انتهت كل فصول المسرحية: "استريحي
ليس للدور بقية
انتهت كل فصول المسرحية
... كنت يوما فتنة قدستها
كنت يوما
ظمأ القلب .. وريه
... كان ماضيك جدارا فاصلا. بيننا
كان ظلالا شبحية
فاستريحي
ليس للدور بقية
.. فاستريحي الآن
لم يبق سوى حيرة السير على المفترق ".7
2تبخر الحلم القومي وشيوع الإحساس بالعقم :
يبدو الشاعر وهو يحدثك عن الهم القومي متعبا وحزينا وكئيبا لما آلت إليه أوضاع هذا العالم العربي بعد هزيمة حزيران الفظيعة، وهو حزن ينساب كالسيل بين ثنايا قصائده. ومسحة الحزن هذه طاغية بشكل لافت للانتباه، وهو ليس حزنا شفيفا وإنما حزن سوداوي عميق نظرا لحساسيته المفرطة تجاه واقع الحال- من جهة ونظرا لطبيعته الذاتية وانكساراته النفسية تجاه المرض الذي استبد به- من جهة أخرى - يقول في قصيدة: " كلمات سبارتكوس الأخيرة:"
"يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان في انحناء
منحدرين في نهاية المساء
لا تحلموا بعالم سعيد ..
فخلف كل قيصر يموت: قيصر جديد
... يا إخوتي : قرطاجة العذراء تحترق
فقبلوا زوجاتكم،
إني تركت زوجتي بلا وداع
وإن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها .. بلا ذراع
فعلموه الانحناء..
علموه الانحناء ..
علموه الانحناء .."8
يبدو الشاعر في هذا الديوان شاهد عصر الهزيمة النكراء التي هزت اليقينيات الزائفة وعرت ما كان مستورا، وهذا ما يؤلب عليه مسحة الحزن السوداني التي لم يستطيع لها ردا، وكيف له أن يفعل بعد افتضاح عجز السلطة، وانهيار الأحلام القومية وشيوع الإحساس بالعقم لدى الشعب الذي ضحى بالغالي والنفيس من أجل بناء هذا الصرح.
ومن ثم انبرى الشاعر في أول ديوان صدر له سنة 1969 وهو: " البكاء بين يدي زرقاء اليمامة " ليمزج فيه بين واقع هزيمة حزيران 1967 والأسطورة، وينسج من هذا المزج وعيا حادا ورؤى مستقبلية لما ستؤول إليه أوضاع العالم العربي نتيجة هذه الهزيمة النكراء، وهو ما أدى إلى تمزق وثاق هذه الأمة التي دخلت في أنفاق مظلمة سادتها الانكسارات والخيبات المتلاحقة لعدة عقود من الزمن.
وقد استطاع الشاعر بصفاء مشاعره القومية أن يرتد إلى التراث العربي المرتبط بالعصر الجاهلي، لينحت منه حوارات ويسقطها بمهارة على واقع الحال للتعبير عن تجربة شخصية بتقنية فنية عالية، كما فعل مع استدعائه لزرقاء اليمامة – باعتبارها عرافة مقدسة – فيقيم معها حوارا شعريا لافتا للانتباه:
"أيتها العرافة المقدسة..
جئت إليك .. مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء
.. أيتها النبيلة المقدسة..
لا تسكتي .. فقد سكت سنة فسنة..
لكي أنال فضلة الأمان
قيل لي "اخرس"
فخرست .. وعميت .. وائتممت بالخصيان!
ظللت في عيد (عبس) أحرس القطعان،
أجتز صوفها..
أرد نوقها
أنام في حظائر النسيان
طعامي الكسرة .. والماء.. وبعض التمرات اليابسة
وها أنا في ساعة الطعان
ساعة أن تخاذل الكماة .. والرماة .. والفرسان ..." 9
بهذه الطريقة – غير المسبوقة – راح أمل دنقل في ديوانه المتميز هذا يقيم هذا الحوار الشيق مع التراث العربي الخالص، يستدعي فيه رموزها الوضاحة ليستقرئ بها الواقع العربي المدمر والممزق.
وفي ديوانه اللاحق الذي أصدر سنة 1976 وهو: "أقوال جديدة عن حرب البسوس " وجد الشاعر ضالته في رموز هذه الحرب التي شابتها خوارق عدة وأسالت الكثير من المداد، حيث قدم إضاءة حول هذا العمل الشعري بقوله:
"حاولت أن أقدم في هذه المجموعة الشعرية حرب البسوس التي استمرت أربعين سنة عن طريق رؤيا معاصرة. وقد حاولت أن أجعل من كليب رمز للمجد العربي القتيل أو للأرض العربية السليبة التي تريد أن تعود إلى الحياة مرة أخرى ولا ترى سبيلا لعودتها أو بالأحرى لإعادتها إلى بالدم .. وبالدم وحده، لقد استحضرت الملك كليب نفسه في ساعته الأخيرة وكذا اليمامة التي كانت ترفض الصلح بشهادتها، وكذلك فعل المهلهل الذي قاد الحرب انتقاما له، وقدمت شهادة جساس مع تبريراته لجريمته، ثم شهادة جليلة بنت مرة الممزقة بين البطلين (زوجها وأخيها) ثم أتيت بشهادة لبعض الشخصيات التي تلعب دورا معلقا على الأحداث ." 10
وهو في مجمل عمله هذا، إنما يريد أن يصف حال الردة التي عاشتها الأمة العربية غداة مذلتها وانكسارها أمام آلات الحرب الإسرائيلي المصفحة بالمستحيل، ويعري واقع الخزي والعار الذي ساد بعد افتضاح عجز السلطة العربية عن استرداد قوتها ومناعتها، ووصف دقيق للذل والمسكنة اللذين يؤثثان كل هذا الفضاء الجغرافي الممتد من النهر إلى البحر والذي فقد كل ميراثه الذي أصبح في يد الغرباء:
"صار ميراثنا في يد الغرباء:
وصارت سيوف العدو: سقوف منازلنا
نحن عباد شمس يشير بأوراقه نحو أروقة الظل
إن التتويج الذي يتطاول:
يخرق هامة السقف،
يخرط قامته السيف،
إن التتويج الذي يتطاول
يسقط في دمه المنسكب .. " 11
أما ديوانه الثاني في الصدور: " تعليق على ما حدث" والذي صدر سنة 1971 " فهو تأمل رصين فيما بصم عصر الإحباطات القومية والفواجع الوطنية، والتزام بمحنة الإنسان العربي في أوطان غارقة في اجترار الأحزان والهموم الدفينة نتيجة ما آلت إليه الأوضاع بعد أن طال أمد دخول هذه الأمة في نفقها المظلم، ويتقمص الشاعر في هذا الديوان دور مواطن عادي بلا عنوان، دائم البحث عن مدينته التي شوهت واستبيحت وفقدت كل ملامحها المشكلة عبر التاريخ بعرق الرجال ومهارة بنائيه وصناعه، كما يتقمص لهذه المدينة رمز "إرم ذات العماد" حيث يتم الارتداد – مرة أخرى- إلى ما زخر به تاريخ العمارة في العصور الغابرة.
ففي قصيدة: "الهجرة إلى الداخل "إبحار في الذاكرة الجماعية بحثا عن بصيص أمل لعل الشاعر يعثر على مدينة حرة ترفل في رغد العيش، إنه ديوان في حب الإنسان العربي المقهور، وفي حب الوطن الذي أصبح مستباحا، وفي انتقاد استعراضات السلطة المتوهمة بأن هزيمتها انتصار حين تقيم احتفالاتها الزائفة تخليدا لعيد الجلاء:
"قلت لكم مرارا
إن الطوابير التي تمر..
في استعراض عيد الفطر والجلاء
(فتهتف النساء في النوافذ انبهارا)
لا تصنع انتصارا.
إن المدافع التي تصطف على الحدود، في الصحاري
لا تطلق النيران .. إلا حين تستدير للوراء.
إن الرصاصة التي ندفع فيها .. ثمن الكسرة والدواء:
لا تقتل الأعداء
لكنها تقتلنا .. إذا رفعنا صوتنا جهارا
تقتلنا، وتقتل الصغارا.12
3البعد الاجتماعي، والالتزام بقضايا الإنسان المقهور
ينطلق الشاعر أمل دنقل فيما يكتب عن عقيدة راسخة بأن الفن ليس تعبيرا عن حزن أو فرح شخصي، وان الشعر بما يمتاز به من رحابة واسعة جدير بان يهتم بقضايا الإنسان سواء في بعده الفردي أو الاجتماعي؛ لأن وظيفته تكمن في تعبئة روح الإنسان تعبئة ثورية حادة . إنه الحلم بتغيير الواقع، حيث يقول: "... وطالما هناك حلم بتغيير هذا الواقع، فلابد أن يوجد الشعر، لأن الشعر يريد أن يجعل من الواقع حلما ومن الحلم واقعا، فطالما وجد الحلم الإنساني والطموح الإنساني، فإن الشعر سيوجد، وفي هذا يختلف الشاعر عن السياسي، لأن السياسة هي فن الممكن، بينما الشعر هو فن المستحيل"12
ومن بين أنبل وظائف الشعر أن يتزعم الشاعر قومه ويقودهم نحو تحقيق النصر والظفر بالخلاص :
"أيها الواقفون على حانة المذبحة
أشهروا الأسلحة!
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة
والدم انساب فوق الوشاح!
المنازل أضرحة،
والزنازن أضرحة،
والمدى أضرحة
فارفعوا الأسلحة
واتبعوني!
أنا ندم الغد والبارحة
رايتي: عظمتان .. وجمجمة
وشعاري " الصباح ! " 13
كما أن من بين وظائفه التعبير باسمهم عما يعانونه من قهر وخسف ومذلة، وما يئنون تحته من ظلم وفقر وفاقة، فلنتأمل كيف يتقمص الشاعر شخصية إنسان عادي ليرسم لنا ملامح الزمن الرتيب الذي يحياه في رحلته اليومية منذ يقظته الصباحية إلى حلول الهزيع الأخير من الليل، وما يغلف يومه هذا من استشعار روح المهانة والذل والمسكنة :
"كل صباح..
افتح الصنوبر في إرهاق
مغتسلا من مائه الرقراق
فيسقط الماء على يدي .. دما!
...    ....    ....
وعندما ..
أجلس للطعام .. مرغما:
أبصر في دوائر الأطباق
جماجا..
جما جما..
مفغورة الأفواه والأحداق! !
أحفظ رأسي في الخزائن الحديدية
وعندما أبدأ رحلتي النهارية
أحمل في مكانها .. مذياعا!
(أنشر حولي البيانات الحماسية .. والصداعا)
وبعد أن أعود في ختام جولتي المسائية
أحمل في مكان رأسي الحقيقة:
.. قنينة الخمر الزجاجية!
أعود مخمورا إلى بيتي ..
في الليل الأخير
يوقفني الشرطي في الشارع.. للشبهة
يوقفني برهة!
وبعد أن أرشوه .. أواصل المسير!"13
هذه هي أدق التفاصيل التي أصبحت تحاصر المواطنين عامة في أيامهم ولياليهم، إن اليأس جو غامر يتسلل إلى كل النفوس التي مات فيها إحساس المواطنين بالكرامة والشهامة والمروءة في وطن غارق في الذل والمسكنة .
لقد أسلم الوطن الروح، والمدينة ما عادت سوى أشباح عمارات شاهقة استحالت سفنا غارقة حطمها قراصنة الموت، ولم يعد ما ينبض بالروح في مدن الإسفلت الصامتة:
"أشعر الآن أني وحدي
وأن المدينة في الليل..
(أشباحها وبناياتها الشاهقة)
سفن غارقة
نهبتها قراصنة الموت ثم رمتها إلى القاع منذ سنين.
... ليس ما ينبض الآن بالروح في ذلك العالم المستكين
غير ما ينشر الموج من علم .. كان في هبة الريح
والآن يفرك كفيه في هذه الرقعة الضيقة
سيظل على الساريات الكسيرة يخفق..
حتى يذوب .. رويدا.. رويدا.."14:

د. امحمد برغوت Berghout 54 @ yahoo. Fr

الهوامش
أمل دنقل: من ديوان : " مقتل القمر "
"    "  : نفسه   
"   "  : من ديوان : "البكاء بين زرقاء اليمامة"
"   "   : نفسه
"   "   : نفسه
"   "   : مقتل القمر " من قصيدة : " طفلتها"
"   "   : نفسه من قصيدة : " استريحي"
"   "  : من ديوان: " البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"
"  "  : نفسه
"  " : من ديوان "أقوال جديدة عن حرب البسوس" من قصيدة: " مراثي اليمامة"
"  " :من ديوان : "تعليق على ما حدث " من قصيدة : " تعليق على ما حدث في مخيم الوحدات"
"  "  : العهد الآتي " من الاصحاح الأول : سفر الخروج : أغنية الكعكة الحجرية"
"  "  :  تعليق على ما حدث " من قصيدة : " فقرات من كتاب الموت"
"  "  : "العهد الآتي"  الاصحاح السابع
"  " : نفسه من قصيدة" سفر ألف دال"
"  " : نفسه
"  " : "أوراق الغرفة 8" من قصيدة: "ضد من"
"  ":  نفسه من قصيدة "زهور"
"  ": نفسه
" " : نفسه من قصيدة "السرير"
"  ": دال محسن أطميس : "مداخل تأملية لرؤية النص الشعري" مجلة: "فصول" مجلد 15 العدد 2 صيف 1996.

youbeكثيرا ما يخلط القارئ بين الشخص والشخصية في الكتابات القصصية، فيجزم ويحكم على القاص ويعتبره هو البطل في القصة،وذلك من خلال الأدوار التي يقدمها البطل عبر مراحل القصة المختلفة.ونحن كباحثين نريد الوقوف على هذه النقطة المفصلية للتمييز بين الشخص الكاتب و الشخصية البطل،لإزالة اللثام عن الغموض الذي يحوم حول هذه الإشكالية.
و أهم الدراسات التي أزالت الغموض واللبس عن هذين المصطلحين هي الدراسات السميائية التي ميزت بين الشخص الذات المكون من لحم ودم، والشخصية الفاعل التي تتشكل حسب موقعها في المقطع القصصي حسب الزمن و المكان،بمعنى التمييز بين الشخص كذات ثابتة عاملة،لها نظرة فوقية ، تحرك الشخصية كفاعل ورقي عبر سطور و مجريات القصة.
الدلالة المعجمية:
في لسان العرب ورد لفظ الشخص بأنه كل جسم له ارتفاع وظهور،و الشخيص، العظيم، ورجل شخيص إذا كان سيدا،بمعنى أن الشخص له علاقة بالهيئة والصفة التي يشكلها في الفضاء الذي يعيش فيه .
وفي اللغة الفرنسية نجد بأن كلمة شخص persone وشخصيةpersonalite  كلمتان مشتقتان من الكلمة اللاتينية personaالتي تدل على القناع الذي كان يضعه الممثل على وجهه من أجل تأدية الدور المنوط إليه.

abstrait7لانقصد هنا الاحتراق بمفهومه الفيزيقي والمادي..ولكننا نقصد المفهوم المجازي للاحتراق..أي ما يكابده الشاعر من معاناة ووجع حين يكون بصدد إبداع شعره، وما يمر به من لحظات عسر وقلق ساعة الكتابة.. وقد اخترنا لفظة الاحتراق لأنها أنسب من غيرها في الدلالة على الحالة التي تنتاب الشاعر عندما يركبه شيطان الشعر ويسبح في ملكوت الإبداع.
نحن المتلقين يغيب عنا هذا الوجه من أوجه الإبداع ، لأنه يرتبط باللحظات الحميمة منه ، والتي لا نستطيع استكشافها من مجرد القراءة.. إنها الطقوس الخاصة التي تحيط بفعل الكتابة ولا تظهر فيها.. فنحن نتلقى القصيدة بعد خروجها من رحم الإبداع مكتملة ناضجة ، ونستمتع بها وبجمالياتها دون أن نفكر للحظة واحدة في مقدار العذاب الذي رافق ولادتها ، ولا في حجم المعاناة التي اكتوى الشاعر بلهيبها أثناء الإبداع.
إن الشاعر حين يقدم شعره إلى المتلقي ، يقدمه مجردا من تفاصيل هذه الحالة ومن ملابساتها.. والمتلقي بدوره يقرأ القصيدة دون أن يفكر في زمن الإبداع ، ولا في ألم الكتابة.. لا يهمه أن يعرف كم من الوقت استغـرق الشاعـر في إبداع قصيدته.. ولا يهمه ما عاناه من ألم واحتراق لكتابة تلك القصيدة.. إنه يقرأها بمعزل عن شروط ولادتها.. ولا ذنب له في ذلك.. لأن تلك الشروط مسكوت عنها وغير مصرح بها.. وفي ذلك بعض الحيف.. فكيف نضع القصائد كلها على قدم المساواة ، وفيها قصائد كـُتِبت بـيُـسْـر وسهولة ومعاناة أقل من قصائد أخرى لم تـَخرج إلى الوجود إلا بعد جهد ولأي وسهر واحتراق؟!