يكشف تدقيق النظر في مصنفات ابن قتيبة عن ممارسة تأليفية متميزة يصدر فيها صاحبها عن تصور خاص لوظيفة التأليف ومقاصده. وهو تصور يحكمه النسق الفكري والعقدي الذي ارتهن إليه المؤلف؛ فلم يكن ابن قتيبة، فيما يبدو، يفصل بين شخصية الأديب وشخصية الفقيه. لقد أراد إقامة بلاغة متوافقة مع منهج أهل السنة في فهم أصول العقيدة. وقد كان إنتاج هذه البلاغة يتعارض مع بلاغة أخرى نقيضة هي بلاغة الاعتزال، التي كانت تستند إلى أصول فكرية ومذهبية مخالفة. فكيف وظفت البلاغة لحل مشكلات العقيدة؟ وما هي مظاهر هذا التوظيف؟
1-البلاغة والغرض العقدي:
لقد سخر ابن قتيبة كتبه ومؤلفاته لخدمة أغراض دينية وعقدية. ولذلك مثل التأليف بالنسبة إليه "زكاة" يتقرب بها إلى الله راجيا نفعها يوم القيامة. يقول: "زكاة العلم نشره، وخير العلوم أنفعها، وأنفعها أحمدها مغبة، وأحمدها مغبة ما تعلم وعلم لله، وأريد به وجه الله تعالى"[1]. ويظهر ذلك بشكل واضح من الربط الذي أقامه بين العلم والنية الخالصة دينيا والمنفعة المباشرة عمليا. وما دام العلم زكاة فعلى العالم أن يختار أنفعه. وليس أنفع من علم يراد به وجه الله. ذلك هو الغرض الأعلى الذي تطلع إليه ابن قتيبة وسخر من أجل بلوغه كل مؤلفاته. وقد عرف القدماء هذه الحقيقة في مؤلفاته؛ حيث نبه ابن السيد البطليوسي إلى أن الأدب، عند ابن قتيبة، له غرضان؛ "أحدهما يقال له الغرض الأدنى، والثاني الأعلى. فالغرض الأدنى: أن يحصل للمتأدب بالنظر في الأدب والتمهر فيه قوة يقتدر بها على النظم والنثر. والغرض الأعلى: أن يحصل للمتأدب قوة فهم كتاب الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم كيف تبنى الألفاظ الواردة في القرآن والحديث بعضها على بعض، حتى تستنبط الأحكام وتفرع الفروع وتنتج النتائج، وتقرن القرائن على ما تقتضيه مباني كلام العرب ومجازاتها كما يفعل أصحاب الأصول. وفي الأدب لمن حصل هذه المرتبة منه أعظم معونة على فهم علم الكلام وكثير من العلوم النظرية"[2].
مقاربة أسلوبية لرواية زقاق المدق ـ إدريس قصوري
تقديم:
لابد أن نؤكد، في البداية، أننا إذ ننظر إلى نجيب محفوظ لا ننظر إليه على أنه مفتي الرواية العربية، ولكن على أنه الشخصية التي أبرزت معالمها وبسطت مشروعيتها للامتداد والتشعب.إذ استطاع أن يبعث نفسا جديدا في الإرهاصات الروائية الأولى ويبلغ بها مرحلة الفطام الفني كما دفع بها إلى أن تستوي ناضجة كاملة في وحدة منسجمة مشكلة نموذجا حقيقا بالاحتداء وقابلا للتطويع والامتداد ولاستيعاب تجارب واتجاهات عديدة.
إننا ننظر إلى نجيب محفوظ ليس لمواقفه السياسية أو أفكاره الدينية أو النفسية أو الأخلاقية، ولكن لأنه استطاع بحق أن يرسي قواعد كتابة روائية ذات نفس جديد له من الصفات والمقومات ما جعله يستمر لفترة زمنية طويلة، ويخلق جبهة عريضة من القراء لم تعد لتستكين للمغامرات الريفية، ولا لجو العبارات الحزينة، جبهة عريضة تتأمل مصيرها، في زقاق العدم والحياة التعسة في مصر الجديدة والوطن العربي، في وضوح تام..
الشعر النسوي العربي بين التقليد والإبداع ـ جعفر كمال
نتناول الشاعرة ناهضة ستار في: إحكام إنفتاح البنية الداخلية على ماهية الصوت:
تقدمة
يمارس الصوت وسائط طيفية تخلق سريرة نوعية في تمويل التخيل الذهني Phantasia، يمكن الاستدلال عليه من سياق الجملة الوصلية، التي تَتَصَّيرْ بها الألفاظ بأناقة زخرفية سلسة، يناجيها خيال الإجْمَال المخصب من رهصة جاذبة، تلك الرهصة التي تمتد لإثارة الحس المزدوج من مبتدأ الإحاطة بأجزاء الشعر الملبية لسريان ترنيمات النبض الصوتي، وقوة الإرادة الإجمالية في المعيون الإبداعي، حيث يُسبَغ النص الصوتي مفاءات توليدية تتجلى فيها الانفعالات الحاسة، وهذا يُخَتَمُ بالإْلهَام عند الشاعر \ الشاعرة، بخاصية تقوم على تمويل طرافة نظم الكلام المستنبط من الملفوظ العادي، إلى الملفوظ الإيقاعي، على اعتباره إنتاج المؤهل الذهني، المُكَوَنُ من معرفة متقدمة لجمالية كائنة في طبيعة الحروف الصوتية من تمكين تحصيل الجوابات الفنية تنسيق مجتنى تالياتها، وكأنما حالها يعمق ويجسد الشعور باتجاه شكل مختلف يَهِبُ النفس التمتع الخالص، وذلك بواسطة التصوَّر النوعي في شفافية التدوير السياقي، فيكون الكلام جارياً في نظمه مجرى النسيم، تتساقى من فيه خصوصية لا تظهر فيها الكلفة والإنفعال الشديد، فيكون مكروهاً. تلك الخاصية التي أشتغلتْ عليها النظم الشعرية بكل أجناسها، وهي إمّا أن تكون مجسدة في الشعور الإرادي عند الشاعرة، أو إنها إعجاز يفيء بمحاكاته التنويرية على المُحَصَل الذهني، وهذا لا يتم إلاّ في حال تهيئة المتقابلات في الصورة الشعورية التي يستولدها الخيال لحظة الكتابة، تلك التي تتصف بالثراء الفكري التنوعي والغزارة والندرة والتفوق، المتمثلة بالنشاط الذي يبثه الصوت في هكذا تخصيص، نتلمسه باحساسنا المشاعري، لأنه يُفاعل التناغمية في محاكاة هي ألطف وأدق منبضات التثوير الحسي، الذي يترك تأثيره على النفس المتلقية بوارد محبب.
هرمونات التخييل في ديوان : وشم بالشوكولا للشاعرة أمينة الصيباري ـ المصطفى سلام
يتضمن هذا الديوان لفيفا من النصوص الشعرية ، إضافة إلى استهلال " عتبة القول " و الذي ينجز وظيفته التمهيدية لجغرافية القصائد و إحداثياتها . و من بين المعالم التي تنطلق منها هذه العتبة : معلم الإحساس و الذي يتنوع إلى كيفيات : كيف تحس الشاعرة بالعالم ؟ و إلى نوعيات : ما هي أنواع الأحاسيس التي تشخصها الشاعرة من خلال تعبيراتها المجازية ؟ إن الإحساس بالوجود تذوق له ؛ فقد تحس بحلاوته أو بمرارته أو ببرودته أو بسخونته ...كما قد تحس بألوانه أو بقساوته أو بعذوبته ....و ذلك استنادا إلى طبيعة تفاعل الذات الشاعرة بعناصر الوجود و أشيائه ، و بعلاقاته و عناصره ، و بمتخيله و واقعه .... لقد بَأّر هذا الاستهلال بعض العلامات الدالة مثل : رائحة الأرض ، المرارة ، السكر ، الشوكولا ، قارورة العطر .....إن هذه العلامات تحمل آثارا دلالية تؤول إلى محتد الإحساس كمنطلق للكتابة الشعرية في هذا العمل ، و كأفق للتفاعل عند القارئ مع عوالم الديوان . إن النصوص تعبر عن نوعية المذاق أو الطَعْم الذي تم تصويره أو تمثيله شعريا : فبأس إحساس انكتبت النصوص ؟ و بأي نكهة تتذوق الشاعرة الوجود ؟ و أي اشتهاء خلقته عند القارئ ؟
استطيقا الامتصاص والتحويل في الرواية العربية : اللص والكلاب لنجيب محفوظ نموذجا ـ محمد الساهل
ـ مقدمة
إن الإبداع الأدبي بصوره التَّعَاقُدِية ليس تَرِكَة لمبدعه، بل هو من مُمْتلكات التاريخ الأدبي بنصوصه وأعلامه، فالأديب ليس مبدعا بالمعنى الصناعي لأن الإبداع، بما هو إنشاء أدبي على غير مثال أدبي سابق، لا يتحقق إلا بالقوة، في حين أن وجوده بالفعل يبقى مرجأ إلى سجلات المستقبل، وبهذا لا تكون الإبداعية خصيصة الأدب لأن منتجه يُوَّلد منتوجه الأدبي بآليتين، تتجلى إحداهما في الامتصاص بما هو استبطان النص – الحاضر للنص – الغائب باعتباره المستودع الذي يحتضن الأفكار والأساليب التي تخترق أجواز المجالين الزماني والمكاني، وتتمثل الأخرى في التحويل بما هو تنضيد لهذا الإرث الأدبي وترصيص لجواهره في ديباجة جديدة، وبهذا تكون التوليدية خصيصة الأدب، فالإبداع في المجال الأدبي لا يعدو أن يكون، في رأي بارت، وَهْما لأن الفعل الأدبي فعل توليدي يتداخل في إنجازه فاعلان؛ أحدهما متوارِ وهو الذاكرة القرائية بعامة والإرث الأدبي بمعانيه وأساليبه بخاصة، والآخر بارز وهو الأديب الذي يُؤلِّف بين ألوان هذا الإرث لتَتَمَشْهد في صورة جديدة، ويُنشط ذاكرته القرائية التي تتداعى تراكماتها الكمية والكيفية في مسطوره الأدبي لتتمظهر في مولود إبداعي متعدد الأنساب والجذور الأدبية.
عَلمَنَة الإبداع ـ عمر طاهيري
بدأ الحديث أول ما بدأ عن العَلمانية في السياق السياسي، فصيغت أقوال وعبارات صارت متداولة بين الناس من بينها قولهم "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، ومنها تعريفهم الأولي للعلمانية بمعناها الجزئي حين قالوا "العلمانية هي فصل الدين عن الدولة"؛ بهدف إبعاد الدين عن أنظمة الحكم، فكانت بذلك علمانية جزئية، ثم اتسعت الدائرة إلى العلمانية الشاملة، ليشمل مجال العلمنة دوائر أوسع مثل السوق والإعلام، وحياة الإنسان الخاصة والعامة، أي أنه وقع انتقال من الإنساني إلى الطبيعي/ المادي، ومن التمركز حول الإنسان إلى التمركز حول الطبيعة، والانتقال من تأليه الإنسان وخضوع الطبيعة إلى تأليه الطبيعة وإذعان الإنسان لها ولقوانينها ولحتمياتها، فشكلت بذلك العلمانية سقوطا في الفلسفة المادية، كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري .
"بلاغة الحرية" أو كيف تتحرك البلاغة في معترك السياسة؟ ـ محمد المساوي
يأتي كتاب بلاغة الحرية للأستاذ عماد عبد اللطيف في سياق مشروعه العلمي الذي يهتم بتحليل الخطاب عموماً، وتحليل الخطاب السياسي خصوصاً، وقد صدر الكتاب سنة 2012 عن دار التنوير، ونال عنه الباحث جائزة أفضل كتاب عربي في العلوم الاجتماعية في معرض القاهرة الدولي للكتاب، الدورة الرابعة والأربعين، سنة 2012.
تتوزع محتويات الكتاب على ثلاثة أقسام، بالإضافة إلى مقدمة حاول من خلالها الباحث تقريب القارئ إلى محتوى الكتاب وأهمية تحليل الخطاب السياسي، ثم خاتمة يمكن اعتبارها لوحدها تشكل قسما موازيا للمقدمة والأقسام الثلاثة، حيث طرح الباحث فيها أسئلة عميقة وخطيرة، هي في تقديرينا تشكّل عُصْب الاشكالات التي تعترض سبيل التحليل البلاغي للخطاب.
الكاتب في حضرة السلطان ـ د.مصطفى الغرافي
يكشف التأمل الدقيق في نظامنا الثقافي عن ارتباط يكاد يكون مصيريا بين الكاتب والسلطان. ذلك أن "التوسل بالكتابة للدخول في دائرة الدولة كان غاية تستقطب المطامح"[1]. وننطلق في هذا المقال من فرض منهجي أساس مؤداه أن السلطة السياسية كانت تنجح دائما في تعبئة المثقفين وتسخيرهم من أجل خدمة مصالحها والترويج لمخططاتها. وقد رأينا أن نختبر هذا الفرض من خلال العمل على تتبع واستقصاء موقف كاتبين مرموقين من السلطة القائمة هما الجاحظ المعتزلي وابن قتيبة السني.
الجاحظ: الكتابة في خدمة السلطان
يبدو أن شهرة الجاحظ، "خطيب المعتزلة"[2]، قد بدأت عند أصحاب السلطان بكتاباته التي تناولت قضية سياسية على جانب كبير من الأهمية. يتعلق الأمر بـ "الإمامة" أو شرعية نظام الحكم بتعبير معاصر. وقد كان الجاحظ يبعث بهذه الكتابات التي يصوغها وفق المذهب الرسمي للدولة إلى "أولي الأمر" باعترافه. يقول: "قرأ المأمون كتبي في الإمامة فوجدها على ما أمر به. وصرت إليه، وقد كان أمر اليزيدي بالنظر فيها ليخبره عنها، قال لي: كان بعض من نرتضي عقله ونصدق خبره خبرنا عن هذه الكتب بإحكام الصنعة وكثرة الفائدة فقلت: قد تربي الصفة على العيان، فلما رأيتها رأيت العيان أربى على الصفة، فلما فليتها أربى الفلي على العيان كما أربى العيان على الصفة، وهذا كتاب لا يحتاج إلى حضور صاحبه ولا يفتقر إلى المحتجين عنه"[3]. وقد كانت ثمرة هذه الخدمة التي أسداها الجاحظ للسلطة أن قدمه أحد المعتزلة، الذين كان لهم نفوذ في بلاط المأمون، هو ثمامة بن أشرس إلى الخليفة الذي ولاه منصب الكتابة، لكن الجاحظ لم يكن له صبر على أعباء الوظيفة فطلب إعفاءه منها بعد ثلاثة أيام[4].