أنفاس" لماذا تركْتَ الحصان وحيدا "
مازال صوتُك يغفو في أذني ، يتلو رقصَ الاستعارة ، يلتحِفُ عنفوان المجاز، يعانقُ كِبْرَ الشِين و تَمَنُّعَ العين وانزلاق الرَّاء إلى تشظِّي الدلالة و فَرادة الانزياح...
" شيءٌ عن الوطن "
التحَفْتَنِي رغم الغياب فتسَرْبَلتُ بالسفر و تركْتَنِي وحيدا ألمسُ أطرافك الوهمَ بيديْن من شِعْرٍ و ياسمين ، أنتَ يا من رويْتَ للمطارات نكبتي و أهديتني بيتا مُتوشِّحا بالقوافي والبكاء و حَبل الغسيل .... 
بحثْتُ عنكَ يا وطني في عشيَّات عمري المالح فانسحبْتَ ككل صباحٍ من أحلامي و مضْيتَ تتصفَّحُ يُتْمَ عينيَّ وعراء النبيذ بين أصابعي ...
أنسى....أنسى كل عمري إلاَّكَ ...:  
رائحة الخشب المبتل في يافا..
صوت الكبرياء في أشجار الخليل ..
طعم الزعتر في ثنايا الكلمة..
رائحة " الهيل " في قهوة صباحية
رقص  " المِرَمِيَّة" الحزين بين شفتيَّ..
آه يا وطني لم يبق منك سوى طعمٍ معتَّقٍ و رائحة خجول و بضعة مفاتيح ...
و آه يا وطني ها أنا أتجمَّدُ صورةً في معرضٍ " للذينَ تُحبُّهمْ " .. سلامًا يا  " حنظلة العليّ " كم يبدو لقاؤك مريرا أجردَ !!
و آهٍ يا حنظلة لو كنتَ معي ....
ما أطول الطريق الكاذب و ما أقصر الموت الجميل..!
 " أرى ما أريد "

أنفاسإن العرف السائد في تصور عملية الخلق الشعري عبر عصور الشعر والنقد، هو أن المشابهة بأنماطها المختلفة وفي تجلياتها المتعددة من تشبيه وتمثيل واستعارة ورمز، هي الطاقة المولدة للصورة الشعرية.
وقد افترض ـ لقرون طويلة ـ أن هذه العملية هي جوهريا إدراك مشابهة قائمة أو مكتشفة أو مبتكرة بين الأشياء. فذهب أرسطو إلى أن الاستعارة علامة العبقرية، ونص الجرجاني على أن إدراك الشبه بين الأشياء هو موضع التفاضل بين شاعر وآخر، وكلما ازداد الشبه خفاءا كلما ازدادت دلالة اكتشافه على تميز الشاعرية التي جلته، وأصر الجرجاني كما أصر أرسطو قبله ثم كولريدج: Collridge بعدهما، على أن المشابهة الأسمى هي تلك التي تكتشف بين مختلفات، وأن التشابه المطلق يعدم التشبيه والاستعارة أو الرمز، ويمنع تدفق الشعرية.
وقد طرح (ا.ريتشاردز Richards) فيما بعد فرضيته المعروفة في أن الاستعارة لا تقوم في الواقع على المشابهة، بقدر ما تقوم على المغايرة والاختلاف. إلا أن الشاعر في العصور الحديثة لم يعد سجين هذه المقولات منذ أن قال (رامبو Rimbeau) "أيها الليل الثلجي الأبيض" ليؤكد على أن مبدأ التناقض والتضاد بين المشبه والمشبه به يمكن أن يصبح طاقة مولدة لابتكار الصورة الشعرية.
وبتتبعنا للإنتاج الشعري الحديث، يتضح مدى الدور الذي أصبحت تضطلع به الكلمة ووظيفتها الجديدة التي يجب أن تتمرد على سلطة اللغة. لقد أصبحت مصدرا لطاقة شعرية قائمة على إيجاد علاقات جديدة بين الكلمات، وشحنها بمدلولات جديدة لاكتشاف أفق لغوي جديد. وهنا تم تبني مسألة الانزياح اللغوي، لأنه طاقة هائلة ساعدت على خلق علاقات جديدة بين المفردات يمنح الصورة ثراءا وغنى لم يتحقق لها في الشعر القديم حيث ظلت تكتسي طابعا منطقيا يقوم بوظيفة توضيحية.
إن الأسلوب الشعري أصبح يتميز باستخدامه أشكالا من التعبير المتخيل لتوصيل الأفكار والعواطف، وذلك من خلال الإيحاء بها عن طريق التصوير، لا التعبير المباشر. "والصورة الشعرية تركيب لغوي لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لعلاقة بين شيئين يمكن تصويرهما بأساليب عدة، إما عن طريق المشابهة أو التجسيد أو التشخيص أو التجريد أو التراسل"(1).

أنفاسيتجه القاص والروائي المغربي محمد أنقار بصدد أطروحة "كتابة الرواية" إلى اعتبارها صيغة إنسانية موسومة بالقدرة على التواصل مع الواقع والحياة. وهو يرجع سر هذه الصيغة إلى نوعية الصور السردية التي تطبع النص الروائي وتميزه عن المتون الحكائية الأخرى كالقصة القصيرة. فالصورة الروائية عنده مطبوعة بالحركة، وهي تتسع لبث منظور سردي متكامل حول عوالم ممكنة. كما أنها ترمي عبر ميثاق القراءة، إلى التعاقد مع  تجربة المتلقي القادر على تنشيط المنظور السردي، وترهبن موسوعة الصور المختزلة في حلقات الحكي. وترتبط الصورة الروائية عند أنقار بتقديم الشخوص والأمكنة، عبر تقاطعات دقيقة تقرب المسافة بين السردي الوصفي. ومن ثم كان لمرجعية المكان عنده مقام خاص وحضور محوري حاسم في  توجيه  أفعال الرواية(1). هذا، وتعد لغة العلاقات المكانية وسيلة من الوسائل الرئيسية لتصوير الواقع، وينطبق هذا الشرط  حتى على مستوى ما بعد النص، أي على مستوى النمذجة الأيديولوجية الصرف. فإذا نظرنا إلى مفاهيم مثل : ((أعلى-أسفل) أو  (يسار- يمين ) أو قريب – بعيد ) نجد أنها  تستخدم لبنات في نماذج ثقافية لا تنطوي فقط على محتوى مكاني بل تتجاوزه للدلالة على بعد أخلاقي قيمي. فتكتسب هذه المفاهيم من جراء ذلك معاني جديدة مثل:  (الحسن – السيئ) أو  (القريب- الغريب) أو ( السهل-الصعب).  وهكذا يمكن القول إن بنية مكان النص تصبح نموذجا لبنية مكان العالم، وتصبح قواعد التركيب الداخلي لعناصر النص الداخلية لغة دالة على النمذجة المكانية. (2)
حدود المكان:   يحيلنا هذا المدخل السابق على نقاش مبدئي بصدد علاقة المكان بالتخييل الروائي،  وفحواه أن فاعلية التخييل معنيّة، بالنسبة  لغالبية النقاد وعلى رأسهم أرسطو، بما يحدث أو بما يمكن أن يحدث وليس بما حدث،  باعتبار أن السرد التخييلي هو أكثر فلسفة وعلمية من التاريخ . بينما راح البعض كأفلاطون و مارتن والاس  و سيرل ، يصنفونه  في خانة  الوهم والكذب .أما (جان إيف تادييه) فيذهب إلى أن الفضاء الروائي هو قبل كل شيء عالم من كلام، سواء أكان انعكاساً أم انزياحاً (3) .  ومن ثم قد يتعين هذا الفضاء  باسم مكان محدد ( مدينة – حارة – موقع تاريخي ...) دون أن يحمل من ذلك المكان سوى الإسم أو بعض السمات والأبعاد. وأقرب مثال لتوضيح هذا النمط  في الرواية العربية هو خماسية عبد الرحمن منيف ( مدن الملح) حيث تبرز مدينتا (حران ) و(موران) كمدينتين روائيتين لا تتحقق فيهما المطابقة بين الروائي والمرجعي إلاّ بقدر يسير. وفي المقابل قد يتعين الفضاء الروائي وفق مكان واقعي موسوم بحدود الجغرافيا والتاريخ ، وهذا هو شأن "قاهرة" نجيب محفوظ  و"باريو مالقا"  محمد أنقار .(4)

أنفاسفي "امرأة الرسالة" لرجاء بكرية، تفاجئك الكاتبة وتذهلك وتربكك كقارئ في آن معًا. فنصّها المذكور نصّ مخاتل ومراوغ. نصّ يشدّك نحو قراءته كرواية حينًا، ويجذبك لقراءته كنص أدبي حكائي استعاريّ حينًا آخر. ولكن في الحقيقة هو منزلة بين المنزلتين، والتعامل معه مهما اختلفت زاوية التناول، يجب أن يكون من خلال كونه نصًّا قصصيًّا، ذلك لأنّه يمتلك كل خصائص هذا الجانر. وهذا النص القصصي في جملته يروي حكاية امرأة مثقّفة من خلال علاقة مثلّثة بالرجل: "وائل الزوج الذي هجرها ورحل إلى الخليج بهدف العمل، والذي استقر هناك وتزوّج/ غسان الفنّان والسجين السياسي بتهمة الإرهاب الذي تعشقه عشقًا صوفيًّا روحًا وجسدًا وهو المحور الأكبر في النص/ وكاظم خيبر العراقي المقيم في لندن، والملجأ الذي يلمّها كلّما كبست عليها لحظات اليأس والضياع والحيرة، والذي يتقن العزف على مفاتيح الجسد".
هذه العلاقات مع التفاوت بينها هي التي تلم شعث النص. ولكن ونحن نقول هذا، يجب أن نكون حذرين، لأنّ العلاقات الثلاث بتشظياتها وانفتاحاتها وتلوّناتها هي علاقات مع رجال تستحضرهم الراوية/ البطلة من الذاكرة، فهم ليسوا شخصيّات نابضة حيّة فاعلة في الواقع، إنّها شخصيات تعيش في الذهن. تستحضرهم في الذاكرة ومنها، وتنبش في علاقتها مع كل واحد  منهم وتحاوره وتداوره وتفتح هذا الاستحضار أحيانًا على الواقع الفلسطيني عندنا، ناقدة له وساخرة منه. الواقع الخارجي معكوس على واقعها الداخلي، فهي تراه حسب نفسيّتها القلقة المتلوّنة ووفقًا لآنيّة اللحظة والعلاقة.
والنص بسبب ما ذكر- أعني علاقة المرأة بالرجل روحيًّا وجسديًّا- مفعم بلغة الروح والجسد، يقوم على مفاتيح نصيّة تمثلها جمل استعاريّة رائعة وصور جميلة موحية تفتح النص على الرّحابة وتشي بأبعاد كثيرة.
هذا النص المربك الذي يكتنز في ثناياه الكثير، ويتطرّق إلى أدق التفاصيل، يتطلب حرفية كبيرة، وإتقانًا لآليات القص ولخيوط لعبته، كما يتطلّب حرصًا شديدًا في تصوير اللحظات المأزومة داخل النص، وتسييج ما يجري خوفًا من التسيّب والفلتان والبعثرة. من هنا تصبح عملية نقل العدوى إلى المتلقي عملية صعبة، كما تصبح عملية الموازنة بين الواقع والمتخيل عمليّة معقدّة. وهنا تجدر الإشارة إلى الجرأة التي تتحلى بها الكاتبة، وإلى حرفيّتها الراقية في تناول مثل هذه المواضيع، وإلى الثقة بالنفس التي تتجلى في التعامل السردي مع هذه الأمور. ومثلما يتطلب نصّ كهذا حرفيّة كبيرة من مبدعة، يتطلب أيضًا قارئًا متمرّسًا يعرف كيف وأين يضع أصابعه على المفاتيح الأساسية للنص، بغية فهم أبعاده ومراميه وطروحاته، ذلك لأنّ القارئ العادي معتاد على نصّ صراعاته خارجية وبنيته السردية واضحة ومعماره الحكائي مدماكي.

أنفاس بعيداعن كل مبررات الأزمة التي يجتهد المثقفون في إخفائها أو شرعنتها بالاتكاء على مقولات فاضحة , يمكن الجزم بأن الاحساس بالأزمة أضحى في حد ذاته نشوة ومتعة , ومطلبا لتحقيق المماهاة مع الأدوار الجديدة  للمثقف..
وقف طويلا خارج أبنية السلطة..وخارج المجتمع !..متقلدا عصا الحكيم ,وملوحا برزنامةالقيم لصد موجات تحديثية تهدد سلطانه !..واجتهد في تشكيل ذهنية المواجهة لدى المتلقي بحديثه عن الغزو الفكري , وإلباس نمط التواصل المفترض مع الآخر المغاير لبوس الصراع العسكري المحض !
لكن فوقية وهيمنة الآخر كشفت عجز المثقف العربي عن تحديث وتطوير آليات المواجهة بما يضمن للخصوصية موقعا ,ويحفظ للمحلي بهاءه أمام الكوني الذي لا يعدو أن يكون مقابلا للغربي المتفوق و النرجسي !  فاندفع بشهية ماكرة لتلوين المستورد , و الحديث عن انفتاح – غير محسوب العواقب- على العالم الحر , وضرورة استعارة القوالب الفكرية الجاهزة التي تغني عن تعب النهوض محليا ,وتسد الفجوة النفسية أولا , و الزمنية ثانيا ,و تحقق نصرا بالبريد!!
تملص المثقف إذن من دوره كموجه وناقد و ربان ,واكتفى بالاندماج في مؤسسات الدولة , و القبول بدور الشريك في سلطة كانت بالأمس القريب خصما حيويا, للإحساس بالتوازن ,وتحصيل المكاسب الدنيئة التي تنهض كل ثقافة على رفضها ,وينبني كل فكر إنساني على مجاوزتها .
 يؤهلنا هذا الجزم لفهم سلوك المثقف الحالي ,و يبصرنا بالمرجعية المتحكمة في المنتوج الثقافي خلال العقد الأخير ,ويدفعنا للتوجس من استفحال الورم ,و انقياد الفكر للقيم المهربة !
انحشر الفن في مستودع الذاتية ,و صارت الترجمة بديلا عن استنبات آليات فكرحر يستوفي شروط الندية ,و اكتفى الإبداع " الحداثي" بمرواغة الدلالة فرارا من القمع !

أنفاساقيموا بني امي صدور مطيكم
 فإني إلى قوم سواكم لأميل

 *الشنفرى*
لماذا الصعاليك؟
 -1-
  لأن نزعة التغريب التي يلمسها المتلقي في المقولات و المفاهيم المؤسسة للمشروع الحداثي المستورد حذت بالكثير من الدارسين إلى العودة للتراث بغية استلهام مقومات مشروع حداثي أصيل,إلا أن توالي الأبحاث والدراسات-خصوصا في شقها الأكاديمي-طيلة العقود الماضية حمل مفاجآت عديدة,فبالإضافة إلى تأكيد هذه الدراسات على أن هذا التراث قادر على أن يشكل قاعدة خلفية لأي مشروع حداثي دون الحاجة إلى الاستيراد,فقد أسهمت في إضاءة العديد من جوانبه التي تم التعتيم عليها لأسباب سياسية أو إيديولوجية!
-2-
لأن الممارسة النقدية العربية  كان يحكمها الوازع الأخلاقي/الديني في تعاملها مع المتن الشعري,لذا تم إقبارجزء لا يستهان به من النتاج الإبداعي تحت ذريعة خرقه للأعراف و المواصفات السائدة.كما اجتهد الناقد العربي قديما في تسييج الرقعة التي يتحرك عليها الشاعر لضبط أي انحراف أو انقلاب ينآى بالنص الشعري عن الوظيفة المحددة له مسبقا,وهي التبعية للنص الديني مضمونا و ل"عمود الشعر"شكلا’وبما أن القراءة النقدية أعلنت تحررها من أية تبعية مسبقة,وحصرت تعاملها مع النص الشعري من حيث كونه بنية لغوية وجمالية فحسب,فقد غدا لزاما أن يعاد الإعتبار لهذا الموروث الشعري "المغضوب عليه"وتخليصه من إسار القراءات المغرضة .
      -3-
 لأن تاريخ الشعر العربي يحفل بجيوب التمرد التي مكنت الإحاطة بمحدداتها و تجلياتها من إثبات حقائق مهمة تضع الكثير من الأحكام الجاهزة , التي يعمد أنصار الحداثة المستوردة إلى تصريفها بغية تكريس القطيعة مع التراث و تدمير سلطانه, على محك المساءلة , ومن بين هذه الحقائق :

أنفاس أتساءل وبحرقة عن مستقبل أدبنا, أتساءل وقلبي حزين على مسيرة هذا الأدب, لأنني أرى تصرفات تصدر عن أدباء تشي بأشياء لا تليق بأدب ولا بأدباء. أتساءل مثلا كيف يمكن لأديب ما أن يغير مواقفه بين ليلة وضحاها؟ أو كيف يمكن له أن يغير رأيه في شيء ما دون أن يسمع أو أن يقف على الرأي المغاير؟ كيف له أن يتحيز لرأي كان يخالفه قبل ليلة وان يتنكر لرأي كان يحّرض له, دون أن يبرهن على هذا التحول بدلائل مقنعة, كيف؟ وكيف والمتوالية طويلة.
الإجابة عن هذه التساؤلات بسيطة.
يكون هذا الأديب مقتنعا تماما بما قرأ وموافقا الكاتب على رأي كتبه ولكن لمجرد أن يدعم رأي الكاتب أديب آخر هو في علاقة شائهة معه أو في عداوة ما, تنقلب قناعته وتصير ضد ما كان مقتنعا به والقضية هكذا تصبح قضية شخصية أو قضية علاقات وليست قضية علمية موضوعية تقوم على إثباتات. فهل صار الأدب يقوم على اعتبارات شخصية؟ بمعنى أن تغير الموقف المشار إليه سابقا يؤشر على أن المنطلقات جميعها والحكم على الأدب كلها تكون مرتبطة بتلك العلاقة.
وطالما أن العلاقة هي التي تقرر, لذلك لا نستغرب من الأديب أن يتلون وينافق ويداهن ويرائي, وهو في سريرة نفسه يعرف أن ما يقوم به مخالف لما يؤمن به, أو لما يدعي انه يؤمن به, ومن هنا ينصب هم هذا الأديب على التفتيش عن وسيلة للمناكفة او للإغاظة بشكل خفي مستتر لأنه يخشى ذلك علانية. " عدو عدوي صديقي ولكن صديق عدوي عدوي". هذا المعيار المضحك البعيد عن الموضوعية يصبح معياره في التعامل الأدبي. فهل يعقل ذلك؟ الأدب لا يقوم على علاقات شخصية ولا يقوم وفق أهواء مزاجية متقلبة. التعامل مع الأدب يجب أن يكون موضوعيا بحيث نقيسه بمقاييس ومعايير أدبية محضة بعيدة عن الرغبات الشخصية والانتمائية والعائلية وأقول ويدي ترتجف لأنني أخشى أن يكون الأمر كذلك, أو الطائفية, والأخيرة اشد إيلاما. "فصديق عدوي" يؤلمني أكثر لأنه من طائفة غير طائفتي. ولو كان الأمر مقلوبا لكان الأمر أسهل بمعنى أن التعصب الطائفي وللأسف, وآمل أن أكون مخطئا, صار يأخذ مكانا في الاعتبارات الأدبية والمقاييس العلمية, ومتى ما تسربت الطائفية البغيضة إلى مكان ما أفسدته ولأنها لا ترحم أحدا, حتما سينهار البنيان الذي بنيناه جميعا بدمع العين. هل  صارت الطائفية أو العلاقة تغير في المفاهيم؟ وتجعل الأديب يضمر عكس ما يعلن؟ فيتظاهر بالانفتاح والديمقراطية وبالعلاقات المنفتحة ولكن إذا فحصنا تصرفاته ونبشنا في دواخله ونظرنا إلى تعصبه لرأي أو لمجموعة آراء مدفونة في داخله تخرج منه في لحظة ضعف أو غضب تنكشف أوراقه ويتعرى.

أنفاس من أجل ثقافة إنسانية، تبحر في فضاءات وعوالم بنفسجية، لأجل الحقيقة هدف الفن والحياة.
صدر في برلين باللغتين العربية والألمانية الطبعة الثانية من رواية الشاعر والكاتب العراقي جميل حسين الساعدي " تركة لاعب الكريات الزجاجية Der Nachlass des Glasperlenspielers " وهي رواية ممتعة تعالج مشاكل الإنسان، وتشد القاريْ إليها بشكل جذاب، كما تثير مفرداتها المتنوعة الجوانب والأشكال الاهتمام والتساؤل.
ولد جميل الساعدي عام 1952 في مدينة بغداد، ونال شهادة الدبلوم في الإدارة من جامعة بغداد عام 1973 ـ بالإضافة إلى نشره الكثير من المقالات والقصائد في الصحافة العربية والأجنبية، فقد أصدر عدة مؤلفات في الشعر والرواية تٌرجم بعضها إلى لغات أخرى كالألمانية والإنكليزية والهولندية والنرويجية واليابانية والسويدية والبولونية وغيرها.
وتعود فكرة كتابة قصة "تركة لاعب الكريات الزجاجية" إلى الفترة التي كان يستعد فيها لكتابة أطروحة الماجستير في الأدب الألماني المعاصر،  كان موضوع الأطروحة هو رواية الكاتب الألماني هرمن هسّه Hermann Hesse " لعبة الكريات الزجاجيةDas   Glasperlenspiel "  التي خلقت لديه أكثر من حافز للخروج بقصة تجتمع فيها الرموز والظواهر التي تشخص تلقائياً البعد الآخر الذي يبحث عنه كل من هسّه والساعدي، كل بطريقته، في روايتيهما اللتين تنسجمان كلياً، موضوعياً وفنياً، بمنأى عن المؤثرات التقليدية، خوفاً من ميل الثقافة والفكر نحو هاجس الأهواء الفئوية.

قرية المجانين في "تركة لاعب الكريات الزجاجية" هي النقيض المقابل لقرية اللاعبين في رواية هسّه، ومدينة س التي لم تكن مدينة معينة بذاتها وإنما هي النقيض لكاستاليا. أستخدمها الكاتب كرمز للدلالة على المدن (كتعبير مجازي) أيضاً تلك القوى البشرية التي تحاول أن توجد لها مساراً خاصاً بها خارج تلك المسارات القائمة على سياق طبقي يهرول وراء الامتيازات، ويفرض على الآخرين قبول الأمر الواقع ومن ثم الحصار، لأنها تنكرت لقواعد اللعبة المتوارثة على أساس المصالح.